تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

رجل أعمال يقتل زوجته وابنيه وينتحر

القوى الخفية هي كلمة السر في الجريمتين اللتين شهدتهما منطقة النزهة الراقية التي تتبع الحي الشهير في مصر الجديدة، السيناريو يكاد يتشابه مع الفارق، ففي الجريمة الأولى قتل رجل أعمال ابنه وابنته وزوجته وسارع الى الانتحار، لكن الأطباء تمكنوا من إنقاذ حياته ليصدر ضده حكم بالإعدام. وبعد ٦ أشهر تكررت الجريمة بشكل متطابق وقتل رجل أعمال زوجته وابنه وابنته، ولكنه انتحر قبل أن يتمكن أحد من إنقاذ حياته. الغريب والمثير أنه في الجريمتين تردد تعبير «قوى خفية» كمتهم رئيسي، لذلك رصدنا ما حدث في المذبحة الأخيرة واستطلعنا رأي علم النفس ورجال الدين في محاولة للوصول إلى تفسير ما يتردد حول «القوى الخفية» التي تدفع أباً لأن يقتل أسرته بالكامل ثم يقتل نفسه!

السيناريو تشابه كثيراً بين الحادثين، مرت ستة أشهر فقط على الحادث الأول الذي هز الرأي العام حينما أقدم المهندس شريف على قتل زوجته وابنه وابنته. ذبحهم أثناء نومهم، ثم حاول أن يقطع شرايينه حتى ينال نفس مصير أسرته. وتضاربت الأقوال فتمّ عرض الأب القاتل على الطب الشرعي بعد أن تردد أنه سمع هاتفاً يدعوه لقتل أسرته.
الأوراق الرسمية أكدت أن المهندس القاتل تأثر بخسارته في البورصة، فقرر أن ينهي حياة أسرته التي اعتاد أفرادها على حياة مرفهة، وأصبح الجميع مهددين بالإفلاس بعد ضياع أموال الأب في البورصة. وسرعان ما أثبت الطب النفسي أن القاتل سليم القوى العقلية وجرت محاكمته ليصدر ضده حكم بالإعدام شنقاً بتهمة القتل. وارتاح المهندس شريف لهذا الحكم الذي أصدره هو نفسه على نفسه حينما انتحر وبقيت الحقيقة تائهة، فهل السبب وراء الحادث هو الإفلاس أم أن الشائعات هي الأصدق حينما ردد البعض أن القوى الخفية وراء الجريمة.
وبعد شهور قليلة تكرر السيناريو مع بعض الاختلافات، ففي الحادث الأول استخدم المتهم سكيناً ليقتل بها أفراد عائلته، لكن رجل الأعمال أسامة الفريد قرر أن يستخدم مسدسه وأطلق رصاصات ليقتل أعز الناس، أصابت الطلقات زوجته ميرفت ـ ٤٦ سنة ـ التي تعمل مدرسة، وابنه أندرو - ١٩ سنة - الطالب بكلية الهندسة وابنته إيريني ـ ١٦ سنة ـ التلميذة بالثانوي.
ثماني رصاصات حصدت أرواح العائلة التي كانت تعيش بهدوء في أرقى مناطق القاهرة، وكان نصيب الأب المتهم رصاصة أخيرة في مخه أنهى بها حياته فوراً بعد أن اتخذ قراره الصعب.
وسط ذهول الجميع سواء الجيران أو عائلته أو أسرة زوجته، دفنت الأسرة  ودفن معها سر الجريمة البشعة رغم أن الأوراق الرسمية سطر فيها رجال النيابة أسباباً واضحة لهذه الجريمة حيث أكدت تحريات الشرطة أن المتهم يتعاطى المخدرات وأن الإدمان دفعه لارتكاب جريمته البشعة لكن تناثرت الشائعات في منطقة الحادث، تارة يقولون إن سحراً وضع للزوج جعله يرتكب جريمته وتارة أخرى يقولون إن الجن وراء الحادث وربط الجميع بين هذه الجريمة وبين مذبحة النزهة التي حدثت منذ  شهور بسبب التشابه الكبير في ظروف الجريمتين، مما جعل المناخ خصباً لانتشار كلمات «قوى مجهولة» «جان» «سحر» وغيرها.

سيناريو  المذبحة

سيناريو المذبحة الثانية كان مثيراً، استيقظ والد السيدة ميرفت من نومه وسارع إلى هاتفه ليتصل بابنته كعادته كل صباح، كان يعلم أن زوجها افتعل مشكلة كعادته وترك منزله قبل ثلاثة أسابيع وترك ميرفت وابنيها بمفردهم.
رن جرس الهاتف لكن الوالد لم يتلق إجابة، اعتقد أن ابنته ما زالت نائمة، انهمك في قضاء بعض حوائج أسرته، وكرر الاتصال ظهراً لكنه لم يتلق إجابة وتوالت اتصالات الأب دون أن يتلقى أي رد، اتصل بهاتفي حفيديه لكنه لم يتلق إجابة أيضاً.
غزا القلق قلب الأب، تحركت الهواجس في عقله، قرر أن يقطع الشك باليقين، قطع المسافة بين منزله ومنزل ابنته بخطوات مسرعة، عاتب نفسه كثيراً لأنه لم يتخذ هذا القرار منذ اللحظة الأولى لامتناع ابنته عن الرد على مكالماته.
استقبله حارس العقار، سأله عن سبب اختفاء ابنته، الحارس أكد للأب أنه لم يشاهد ميرفت أو ابنيها في هذا اليوم، لاحظ أيضاً أن صوت التلفزيون عالٍ للغاية داخل المنزل، انخلع قلب الأب وازدادت شكوكه حول تعرض أسرة ابنته لمكروه.
خفق قلبه بقوة حينما وصل إلى الباب، طرقه لكنه لم يستمع إلى إجابة، توالت طرقات الأب الذي استعان بالجيران وعلا صوته وهو ينادي على ميرفت وابنيها، في النهاية قرر تحطيم الباب مستعيناً بالجيران وحارس العقار وكانت المأساة.

رائحة الموت

الدماء كانت تغرق المكان، رائحة الموت كانت تفوح من المنزل الأنيق، انهمرت الدموع من الأب وهو يقفز مسرعاً إلى غرفة نوم ابنته قبل أن يتسمر في مكانه، المشهد لم يكن في حاجة إلى تعليق، ابنته ترقد على فراشها الذي أغرقته الدماء، وفي الجوار جثتا ابنها أندرو،وابنتها إيريني وزوجها أسامة.
انتقل إلى مكان الحادث خبراء المعمل الجنائي والطب الشرعي، ووفق تصورهم لكيفية وقوع الحادث قام الأب بإغلاق جميع النوافذ، وباب الشقة من الداخل، وفتح التلفزيون حتى يغطي صوته على صوت الرصاص ثم ارتكب الأب جريمته فجراً.
أطلق أسامة الرصاص على ابنته ثم زوجته وابنه، وأخيراً رصاصة في فمه ليلقى بها مصرعه فوراً، الجيران أكدوا أنهم سمعوا صوت مشادة كلامية عنيفة قبل أن ينطلق صوت الرصاص، اعتقد البعض أنها أصوات ألعاب نارية اعتاد أندرو أن يطلقها، لم يتخيلوا أن الزوج هدم المعبد على رؤوس الجميع.
التحريات أكدت أن المشاكل بين الزوج وزوجته لا تنتهي، فهو لا يحب المسؤولية، ترك أسرته لزوجته حتى تقوم برعايتها وانهمك في السهرات وتعاطى المخدرات، كان كثيراً ما يترك منزله ويقضي عدة أيام في أحد الفنادق الكبرى ويعود بمشاكله مرة أخرى.
تحول الأب إلى زائر غير مرغوب فيه لأسرته رغم ثرائه الشديد. كانت الأسرة علاقتها جيدة بجيرانها، لكن الجميع كانوا يتجنبون أسامة الذي خسر معظم أمواله في الأيام الأخيرة وساءت حالته النفسية وأصبح عنيفاً في التعامل مع زوجته وابنيه، كانت الزوجة تحاول أن تبتعد بابنيها عن والدهما. قررت النيابة حفظ القضية بعد أن تأكد ارتكاب أسامة لهذه المذبحة قبل انتحاره.

تفسيرات اسطورية

يعلق الدكتور ناصر لوزة أستاذ الطب النفسي وأمين عام الصحة النفسية بوزارة الصحة مؤكداً أن هذه المذبحة تترك وراءها بيئة خصبة للشائعات والتفسيرات الاسطورية التي تتحدث عن القوى الخفية رغم أن الحقيقة واضحة ولا تحتاج إلى اجتهادات.
ويضيف: هناك تشابه بين جريمتي النزهة رغم اختلاف بعض التفاصيل، لكن الظروف واحدة، الأب القاتل في كل من الجريمتين أصيب باكتئاب نفسي حاد أراد أن يتخلص من حياته بسبب إفلاسه أو ظروفه الاجتماعية والاقتصادية السيئة، لم يرغب الأب أن يغادر الدنيا وحده فقرر أن يصطحب معه أحباءه حتى لا يتركهم فريسة للشقاء من بعده.
ويكمل الدكتور ناصر لوزة: الاكتئاب النفسي مرض يصيب ٣٥ في المئة من الناس، ولكن بدرجات وهو ليس مرضاً نادراً بل منتشر في معظم دول العالم وآثاره مدمرة ودائماً ما تكون على المريض وأقرب الناس إليه والضحية دائماً هي أسرته، فهناك من قتلوا زوجاتهم وأمهاتهم في أوروبا بسبب الاكتئاب النفسي.

رأي الدين

يرى الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر الأسبق أن الإسلام يرفض الإيمان بالقوى الخفية التي تخرج الإنسان عن شعوره وتجعله يرتكب الجرائم، ولهذا فإن ربط الأحداث بالمسببات الحقيقية أمر ضروري في الإسلام وهذا ما نفهمه من قصة ذي القرنين الذي كان من أشهر ملوك اليمن قديماً ذكر القرآن الكريم قصته في قوله تعالى: «ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً. إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً»، سورة الكهف آية (٨٣ - ٨٤ - ٨٥)  أي أنه عرف الأسباب وأخذ بها، وبالتالي فإن العلاقة السببية في الإسلام أمر رئيسي حتى لا يدعي المخرفون والمرضى النفسيون أن هناك قوى خفية دفعتهم إلى ارتكاب سلوكيات رغماً عنهم، وبالتالي فهم غير مسؤولين عنها كما أن معرفة الأسباب تجعلنا نتجنب تكرار مثل هذه الحوادث البشعة.
ويضيف الدكتور نصر:الإنسان مسؤول عن أفعاله ما لم يكن عقله غائباً لأسباب خارجة عن إرادته لأن العقل مناط التكليف وهذا الذهاب للعقل له ضوابط ويحدده الأطباء والمتخصصون الثقات وليس بادعاء المجرم نفسه إن هناك قوى خفية غيبت عقله وسيطرت عليه ودفعته إلى ارتكاب جرائم تصل إلى القتل الذي يعد من أكبر وأبشع الجرائم في الإسلام الذي جعل من يقتل نفساً واحدة فكأنما قتل الناس جميعاً وهذا ما أكده القرآن في قوله تعالى: « من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً» آية ٣٢ سورة المائدة. 

مؤشرات سابقة

ترى الدكتورة سامية خضر أستاذ علم الاجتماع أن ظهور مثل هذه الجرائم ناتج عن تناول جرعات من الأدوية أو المخدرات، حيث اكتظت الصيدليات بإعلانات عن مختلف الحبوب من أجل الحياة، فمنها ما تحسن المزاج ومنها ما تعيد النشاط الجنسي، ومنها المهدئات التي يمكن لأي شخص شراؤها بدون استشارة الطبيب، إضافة إلى انتشار المخدرات.
وتضيف الدكتورة سامية خضر: إن مثل هذه الجرائم عادة ما تكون مصحوبة بمؤشرات سابقة، أهمها إصابة رب الأسرة بالعنف الشديد في تعامله مع أسرته الذي قد يصل إلى عدم قدرته على التفاهم مع زوجته وأولاده وتعنيفهم وربما يلجأ إلى الضرب والشتائم البذيئة وهو غير معتاد على هذا الأسلوب، وبالتالي تكرهه أسرته ويكرهها في المقابل. لذا لا بد من التحليل العميق لمثل هذه الجرائم، وتشريح الجثة لمعرفة إن كان القاتل يتعاطى مخدرات أو أي جرعات كيميائية من الأدوية.

رجل فقد عقله

من جانبه يؤكد الدكتور هاني حامد أستاذ علم النفس، أن هذه الجريمة غريبة لا يصدقها عقل لو حاول فهمها أو ربط أجزائها فيجد صعوبة في ذلك، ولا يستطيع العقل البشري في أي ظرف عادي استيعاب أن أباً يقتل ابنه أو العكس، ويزداد شتات العقل وصعوبة فهم الموقف وتقديره عندما يقرر أب فجأة إنهاء حياة أسرته بالكامل وجميع أفرادها من زوجته شريكة عمره لابنه زهرة عمره وابنته التي عاشت معه حياته ولم يكن يحتمل مرضها، إنه بالفعل قرار صعب إلا بافتراض أن الشخص في مثل هذه اللحظة قد فقد عقله، ونستطيع وصفها علمياً بأنها لحظة اضطراب ذهني حاد ومن الممكن أن تستمر للحظات وقت وقوع الجريمة، وفي بعض الأحيان يرجع الشخص لحياته، ومن الممكن أن يمارسها بشكل عادي ويندم الندم الشديد على فعلته. ولكن هذا لا ينفي بكل المقاييس أنه مريض نفسي أصيب باضطراب نفسي عنيف وحاد أدى إلى خلخلة نفسية داخلية عنيفة أفقدته الحكم على الأمور وإصابته بالاندفاعية الشديدة المتبوعة بالندم الشديد. إن مثل هذه الظاهرة تستحق الدراسة، ولكننا للأسف أصبحنا في مجتمعنا نفتقد التأمل والتدبر ونستهل تفسير الأحداث الغريبة بوجود قوى خفية، وهو تفسير غير مقبول بالطبع.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078