شباب لبنانيون في دائرة الخطر
شباب لبنانيون ألقت بهم الحياة بين براثن المواد المخدّرة. ظروف عائلية أو فورة الشباب ووفرة المال أو متعة السهر الصاخب سلبتهم رشدهم ورمتهم في محطة الإنتظار رهن متاهة الحاجة الملحة التي تخمد ثورتها نشوة زائفة سرعان ما يتلاشى مفعولها ويُمسي الإنسان كائناً غرائزياً وغامضاً وعابثاً بحياته داخل حلقة الحلم والوهم المقفلة . شهادات لتائبين عن تعاطي المخدرات وتحذيرات أمنية وتوصيات طبية وإجتماعية تدق ناقوس الخطر الداهم والمحدق بالشباب في هذا التحقيق.
داني: هذا ثمن فضولي: حرقت ذراعي لأخفي أثار الحقن التي أنهكت عروقي
قلت له كطلب بديل: «هل لديك كوكايين؟» دون ان أعرف ماهيتها، فسارع إلى القول: «لديّ هيرويين». وقد وضع على الطاولة أمامه غراماً كاملاً منه وتنشّقه مرّة واحدة ليعلمني كيفية تناوله. كان بيت هذا التاجر على مقربة من منزلي. كانت أمي باستمرار تسألني عن سبب إحمرار عيني وكان المبرر الأسهل هو قيادتي للدراجة النارية.
في إحدى الليالي، خرجت من المنزل لتناول العشاء مع أصدقائي الذين كانوا ينتظرونني على ناصية الشارع. كان أيمن يتمايل ويضحك وهو يدخن سيجارة حشيش، دعاني لأشعل واحدة. لم أتردد لكني لم أشعر بشيء. دخلنا المطعم وكنت طوال الجلسة أسخر من أيمن لأنه لم يطرأ أي تغير في سلوكي. في الأيام اللاحقة، كان يحدوني الفضول لإعادة الكرّة إلى أن دخنت السيجارة الثانية والثالثة والرابعة... طلبت من صديقي أن يعرّفني إلى التاجر الذي يبتاع منه مادة الحشيش. لجأت إلى الأخير لكنه رفض أن يمدّني بهذه المادة التي شعرت بحاجتي إليها كثيراً.
في تلك الفترة كان التاجر الأول قد دخل السجن، تدبرت أمري بالعثور على تاجر آخر أطلعني على وسيلة التعاطي عبر الحقن الذي يعطي مفعولاً أسرع لدخول المادة السامة مباشرة إلى الدم رغم أنني كنت أعاني منذ الصغر رهاب الحقنة، إلاّ أن حاجتي بررت الوسيلة. مرّ عامان وأنهيت المدرسة وتهيأت لدخول الجامعة التي صادفت فيها صديقاً دلنّي على طريق البقاع وتجارها. بت أخرج معه باستمرار لشراء كميات أبيع منها لتغطية نفقات الإدمان رغم أن أهلي ميسورو الحال ذلك إني كنت بحاجة إلى المزيد من المبالغ مع مرور الوقت.
وقُتل التاجر الذي كان يؤمن حاجتي على مدى ثلاث سنوات. تعرفت إلى تاجر ثالث بسهولة في بيروت، كان يعطيني مزيجاً من المواد المخدرة بما فيها المواد المهلوسة. ولإبعاد الشبهات عن جسمي الذي كنت احقنه بإستمرار حرقت ذراعي بالسيجارة لكي يتحول مكان الحقن المخيف إلى حرق يخفي عروقي المنهكة. نسيت عائلتي ومحيطي ولم أكن في حاجة إلى أحد، لكنني كنت أحاول باستمرار الخروج من هذا المأزق الذي أنزلق إلى أعماقه يوماً بعد يوم. بعدما بدأت الدراسة في مجال إدارة الأعمال إنتقلت إلى جامعة جديدة لأقطع علاقتي بأحد مصادر المخدرات، لكنني فشلت.
درست ثلاث سنوات وقد حصل سوء تفاهم مع عميد الكلية فسارعت إلى ضربه بعد أن فقدت وعيي بفعل تعاطي المخدرات التي كانت الدافع الأكبر لإرتكابي العنف بحق رجل في سن والدي. طردت من الجامعة وقبعت في المنزل، أصبحت مادة الهيرويين الحبيبة والعائلة والعالم بأسره. إكتفيت بها. كنت أستيقظ في الصباح، أؤمن حاجة النهار وأنزوي في غرفتي وأغيب عن هذا العالم دون التفكير في العواقب. المخدرات سلبتني وعيي وأضلت طريقي وكادت تقتلني عندما تناولت جرعة زائدة في إحدى المرات، إلاّ أن أصدقائي حاولوا إنعاشي عبر التنفس الإصطناعي بعد أن أبوا المخاطرة في إرسالي إلى طوارىء إحدى المستشفيات القريبة.
لم أفوت فرصة تجريب أي مادة من الحبوب المهلوسة إلى الفطر السام، خصوصاً عندما تنتابني أوجاع الرغبة القوية للتعاطي. هذا أبشع شعور، آلامه لا تطاق. كنت أشعر بأحشائي تتمزق ومفاصلي تحترق وظهري تنهال عليه الطعنات. كنت إنساناً ضعيفاً وهشاً وسهل الإنكسار وسريع البكاء والإنفعال، كنت على إستعداد لتحطيم كل حاجز أمامي للحصول على المخدرات خصوصاً بعدما قطع أهلي عني المصروف لدى العثور على ملعقة تحت سريري تحمل آثار الإحتراق والإسوداد.
بدأت أتناول الهيرويين في سن الرابعة عشرة بمعدل غرام واحد كل أسبوعين إلى جانب مادة الحشيش التي كنت أمزجها مع تبغ السيجارة. وقد وجدت أمي فتات المادتين على السجادة وشكت في أمري خصوصاً أن شقيقتي طبيبة وتعاين حالات إدمان ولديها تفاصيل عن الموضوع، كما أن أبي ضبط في محفظتي للنقود لفائف ورقية لتغليف الحشيش. تحايلت على أبي وقلت له أنها رقائق لتنظيف عدسة آلة التصوير لكن هذه المرّة لم أنجح في تبريري وقد تعرضت للضرب المبرح والعزل في غرفتي. مضت أشهر قليلة وما أن هدأت الأوضاع حتى عاودت الخروج.
في تلك اللحظة حزمت أمري بعدم الإستسلام للواقع، ترددت إلى أكثر من معالج نفسي لكن حاجتي إلى المخدرات كانت ترتفع بالتوازي إلى أن لجأت إلى طبيب نفسي وصف لي أدوية تتعارض وتركيبة المخدرات أي لا يمكن للمدمن تناولها إلاّ إذا أوقف تعاطيه للمواد المخدرة.
وبالفعل تحديت نفسي وإنتقلت إلى منزل العائلة في الجبل لمدة شهر. وجدت دعم العائلة، أمي كانت تجثو أمامي وتتوسلني للإبتعاد عن المخدرات، فأنا وحيدها وآخر العنقود. أدرس حالياً التسويق بعدما خسرت ثلاث سنوات في الجامعة السابقة التي كلفت أهلي أربعين ألف دولار. أنا كائن جديد بدأ حياة جديدة منذ سنة وشهرين. عدت تسع سنوات إلى الوراء، أمارس رياضتي المفضلة كرة السلة وأخرج إلى الطبيعة لتنشق الهواء النظيف. أتمنى أخيراً من الدولة اللبنانية أن تكثف مداهماتها لبعض المناطق المحظور دخولها والتي تنصب أفخاخاً تضل طريق الشباب نحو الإنحراف القاتل.
رويدا: عشت كابوس الواقع... ومغامرتي مع فادي رمتني في الجحيم
في ليلة حالمة، إنتخبت وصيفة أولى في إحدى المسابقات الجمالية التي يزخر بها صيف لبنان. حملت الورود واللقب إلى منزلي المضطرب، ففي تلك الفترة كنت أعاني من طلاق أمي وأبي الذي قرّر الزواج مجدداً من إمرأة رفضتها وشقيقاتي لأنها لم تكن تعكس صورة أمي أو صورة أي إمرأة جديرة بالدخول إلى منزل محترم ومحافظ. هدّدت أبي، إنتقلت للعيش لفترة عند صديقتي وتحديداً في أحد المنتجعات اللبنانية حيث تعرّفت إلى فادي.
شاب وسيم في العشرين. هذا كان جلّ إهتمامي المنسجم مع عالمي في مجال عرض الأزياء وتصوير الإعلانات واللهو. تقرّبت من هذا الشاب كثيراً وصارحته بمشاكلي العائلية منذ اللقاء الأول. كنت شديدة التمرد على واقعي، خلت أن أبي سينصاع لإرادتي، تحدّيته وكدت أطرده من المنزل. يوماً تلو الآخر، كنت أتمسّك بفادي وأشعر بالراحة لدى التحدث إليه. وقد لاحظت أنه يدخن بطريقة غريبة ويصبح إنساناً آخر. صارحته بالأمر فقال لي أنه يتعاطى الحشيشة. لم أشعر بالخوف بل انجذبت إلى نمط حياته المنعتق من القيود، حتى طريقة لبسه غير التقليدية بين الرياضية والتطرف بعكسي تماماً، إذ كنت أرتدي ملابس كلاسيكية ومرتبة.
ألغيت التناقض بيني وبينه وقررت الدخول في مغامرة مع شاب أغرمت به وبات فارس أحلامي. تشاطرنا جلسات تدخين الحشيش وكنت أشعل أكثر من عشر سجائر يومياً. سافر فادي، فهو مقيم في الخارج ويأتي إلى لبنان في إجازات الصيف والأعياد. بتّ وحيدة مع السيجارة التي لم تكن غريبة عني أصلاً، لم يكن التدخين في سن الـ 16 من المحرمات في منزل العائلة إنما هذه المرة المادة التي تحويها السيجارة إختلفت. كنت قد تعرفت على المصدر الذي يأتي منه فادي بالسجائر، فبتّ أتصل به للحصول عليها. أذكر أنني كسبت وزناً إضافياً لأنني أصبحت شرهة. سافر أبي وأصبح وضعنا المادي صعباً للغاية رغم عمل أختي.
كنت ألجأ إلى والدة فادي بإستمرار وهي منفصلة عن والده، أما أمي فهي تعاني من أمراض عصبية. تلقيت دعماً مادياً جيداً من عائلة فادي الذي كان يتصل بي على الدوام. كان الإحباط يلازمني بعدما تغيرت ملامح حياتي. أنهيت الدراسة الثانوية ودخلت إلى الجامعة للتخصص في علم النفس. تعرفت هناك إلى صديقة كانت ترشدني بإستمرار وتحثني على الإستعانة بمعالجة نفسية. دعاني فادي للسفر إليه، غادرت لبنان ويا ليتني ما فعلت. فقد أشعلت عشرات السجائر وتعاطيت الماريجوانا وتناولت حبوب الهلوسة التي دمرتني وألحقت الضرر بي وباتت حالة القلق لا تفارقني.
زرت أكثر من عيادة نفسية لكن علاجي كانت تتخلله إنتكاسات بعد أن تعرّفت إلى الهيرويين والكوكايين. أصبح الإدمان حياتي، تحولت إلى إنسانة مهملة وكاذبة تتخطى الحدود ومجرّدة من القيم، مغامرتي وفادي أودت بي إلى الجحيم. خرجت برفقة أكثر من شاب، سقطت في حفرة قذرة. تركت مقاعد الدراسة الجامعية قبل موعد الإمتحانات لأنني لم افلح في التركيز. عدت ودخلت جامعة أخرى لكنني كنت كثيرة الإنفعال ومشتتة الافكار، فاستسلمت للأمر وإتصلت بصديق ليجلب لي الهيرويين. عام 2005، شعرت بحجم المشكلة التي أواجهها، إنسانة محطمة نفسياً، ترمقها شقيقاتها بنظرة غير جديرة بالإحترام.
علم أبي بأمري عندما صارحت أختي الكبرى، عاد إلى لبنان وأرسلني إلى مركز لإعادة التأهيل. أقمت فيه لمدّة سنة ونصف السنة، هربت في الشهر الثالث لكن عائلتي أعادتني إليه. عدت إلى المنزل قبل إنهاء العلاج لأنني شعرت بالتعب والعزلة القاتلة ثم عالجني طبيب نفسي وإنتهى الكابوس. أشعر اليوم بترسبات الماضي وأخاف أن اضعف مجدداً لكنني أجد من يدعمني، وتربطني علاقة عاطفية جدية بشخص رائع. عاد والدي إلينا وطلّق زوجته. أعمل حالياً في شركة مجوهرات راقية وسأدخل الجامعة مجدداً... الحياة جميلة وأهم من البقاء في الظل والهروب من المشاكل عبر المنفذ السحيق.
كريم: مدمن طوال 14 سنة: لن أقبل بأن يتقدم لخطوبة إبنتي شاب عاش تجربتي
إنتهى العام الدراسي. تعرفت إلى أصدقاء جدد في الشاليه المجاور لسكن عائلتي الصيفي. كنا نمرح ونسهر أسبوعياً إلى أن نصحني أحدهم بشرب قنينة دواء السعال لأختبر الشعور عقب تجرّعه. راقتني الفكرة بعدما وُعدت بدخول عالم آخر. في هذه السن كنت مقداماً لا أهاب شيئاً وأحب المغامرة. تناولت الدواء وبت اشتريه باستمرار من مصروف الجيب الذي يخصصه لي اهلي. وبعد مرور سنة بدأت والزمرة التي توثقت علاقتي بها تدخين الحشيشة بحثاً عن الشرود، كانت السيجارة تتنقل مداورة بيننا وذلك على مدى أربع سنوات إلى أن حان وقت دخول الجامعة.
مرحلة جديدة واكبت خلالها كل جديد من أفكار أستمد منها متعتي لساعات معدودة. كنت أحاول الهروب من واقعي ومعاملة اهلي لي والإنتقاد الجارح الذي يوجهونه إلي. وقد ادركت لاحقاً أن هذا التفكير كان خاطئاً وسببه غياب الحوار والتواصل بيني وبين أفراد أسرتي. عند إنتهاء موسم الصيف، كنا نحتفل بأجواء بيروت. في تلك الفترة كنت أتناول 15 قنينة من دواء السعال يومياً، كانت حاجتي تزداد وشعور النشوة يتضاءل مما يجعلني أقدم على مزج أي مواد سامة ومخدرة للحصول على المتعة القصوى إلى أن اتى أحد اصدقاء الماضي بمادة الهيرويين وأُسمّي هذه المرحلة مرحلة الخراب والهلاك الحقيقي. تعذبت كثيراً للتخلص من آثار هذه المادة، عشت الجحيم جراء البودرة والحقن والحرق. في تلك الفترة كان مصروفي قد إرتفع، كنت اشتري مغلفات الهيرويين لدرجة أنني كنت أتناول 8غرامات منه يومياً في سن الـ 26.
كنت أزور شمال لبنان للتزود بهذه المواد. خسرت مظهري اللائق، كان شكلي مخيفاً بعد أن أصبح وزني 55 كيلوغراماً وقد جحظت عيناي وبرزت عظام وجهي. أصبحت إنساناً كاذباً ومخادعاً، أذكر أنني وضعت طوقاً في العنق لأبرر غيابي المستمر عن الجامعة وتخلفي عن تقديم الإمتحانات. إنقطعت عن الحياة. حاولت مراراً مصارحة عائلتي بالوضع المزري الذي وصلت إليه لكني خشيت ردة فعلهم. تم القبض عليّ، كانت الشرطة تلاحق أحد التجار وتنصب له مكمناً فوقعت معه بعد أن إلتقيته لتزويدي بالمخدرات.
خرجت من السجن بعد أسبوع بعد أن تلقيت ضرباً بحزمة من الأسلاك لأنهم كانوا يريدونني الإعتراف بأسماء تجار ومدمنين. لا يمكن وصف شعوري وما إنتابني في ذلك الوقت، فقد تمنيت الموت جراء الأعراض المؤلمة ونوبة الحاجة إلى التعاطي التي عصفت بكل أنحاء جسمي. فور إستعادة حريتي عدت لتناول المخدرات بشراسة وبكميات مضاعفة. كنت أنتظر الحفلات الموسيقية الصاخبة لتناول حبوب الهلوسة. إنغمست في عالم مقرف حاولت الخروج منه بإتباع علاجين باءا بالفشل. أما الثالث، فراهنت عليه وأهلي الذين أدركوا مشكلتي أخيراً، وقد فاجأتني ردة فعلهم الحاضنة لي.
فبعد أن كنت لا أجد مشكلة في الموت القريب، دخلت المستشفى وتناولت أدوية سكنت حاجتي إلى المخدرات وعقمت دماغي وأخرجت السموم من جسمي. فكّرت في يقظتي التي كان وقتها ضيقاً بأنني بلغت ال27 دون أن أحقق شيئاً في حياتي. ذقت عذاباً حقيقياً من أعراض الفطام، لا مجال للفشل هذه المرّة. تقدمت لخطوبة صديقة سابقة دعمتني كثيراً وقد تفهّمت رفض أهلها لي في البدء لأنني وضعت نفسي مكانهم وما كنت لأقبل أن تقترن إبنتي برجل عاش تجربتي. لا يمكن الوثوق بإنسان تحيط بعينيه هالات سوداء تخيف كل من رآه.
عشت تحدياً كبيراً بمساعدة معالجة نفسية أعادت صياغة حياتي بعد أن توقفَت من عمر 13 حتى ال27. أشعر اليوم بنضج نفسي بعدما إختبرت شعور الالم والمعاناة والفشل والإحباط. في بعض الأحيان، لم أجد شرياناً لحقن مادة الهيرويين، كنت ارتدي ملابس بأكمام طويلة صيفاً، كنت إنساناً يعيش في العتمة ويخشى إفتضاح أمره. صلّيت كثيراً وتقرّبت من الله. إنقطعت عن عالمي السابق ورميت هاتفي الجوال في القمامة، عدت إلى الواقع وأنهيت دراستي في مجال التأمين وأعمل حالياً وأؤسس للمستقبل مع خطيبتي.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024
شؤون الأسرة
اقتراحات تمييزية للتشويش على حق الأمهات اللبنانيات بإعطاء الجنسية لأطفالهن
شؤون الأسرة
عائلة حسام ورولا تنقل تفاصيل دقيقة عن الحياة في هولندا بكل صعوباتها وإيجابياتها
شؤون الأسرة