أم سعودية تصرخ...
سيدة في منتصف الثلاثينات، نشأت في بيئة اجتماعية راقية، تزوجت من شاب طموح ويعشق التحدي في العمل. كانت تجوب مع زوجها وأولادها الكثير من الدول العربية والأوروبية، وتسكن أفخم القصور، ولديها الكثير من العاملات والسائقين، ولكن تبدل حالها إلى ما لم تكن تتوقعه. فقد تغيّر زوجها بعد عودتهم من إحدى الرحلات السياحية الخارجية، طلّقها وباع كل شيء وغادر السعودية، وتنصّل من مسؤولية أولادهما الستة. نوف المغلوبة على أمرها، ارتأت أن تفصح عن مكنونات نفسها لمجلة «لها» علّها تجد مخرجاً.
تقول نوف: «تزوجت وأنا صغيرة من رجل متعلم ومثقف وعلى مستوى وظيفي عالٍ جداً. كان بارزاً في عمله ناجحاً شغوفاً بتطوير الذات والمعرفة وكل ماله علاقة بالتكنولوجيا، مثابراً مجداً ودوداً سخياً إلى درجة يحسدني عليها الجميع. عمل مهندس شبكات واتصالات في أكثر من شركة كبيرة. تزوجنا في البداية على أسس العقل والقناعة والرضا والتفاهم والإحترام، وأنجبت ثلاثة أولاد وثلاث بنات. استقرّت بنا سفينة الحياة على الحب والوفاء والسعادة والعطاء حوالي 15 عاماً، كنا فيها مثال الأسرة السعيدة الآمنة. كان أولادي يتعلّمون في أحسن المدارس ويتلقّون العلاج في أفضل المستشفيات، يرتادون أجمل الأماكن ويرتدون أغلى الماركات ويزورون أروع بلدان العالم ويسكنون أفخم فنادقها ويركبون أفخم السيارات. وكان يشاركني في الاهتمام بالأولاد والبيت عدد من العاملات، وعدد آخر من السائقين».
وتضيف: «كان يعامل أولاده بخوف وحرص وحب شديد كعجوز عقيم رزقه الله الذرية الصالحة بعدما بلغ من العمر عتيا، يقوم بالأعمال الطيبة دون إثارة همسة واحدة. كان دائماً يعمل بصمت ودائماً ما نكتشف مواقفه الخيرة بالصدفة المحضة... فجأة وبصورة غريبة تغيرت أحوال زوجي. وصرنا نلاحظ سخطه المستمرّ على جميع الأوضاع بما في ذلك عمله وبيته وأولاده. أصبح إنساناً آخر عصبي المزاج ثائر الأعصاب يضربني وأولادي ضرباً مبرحاً لأتفه سبب بصورة قاسية وجنونية ووحشية. صدمني نفسياً وآلمني في الصميم، كما أصاب يدي اليسرى بكسر تطلب عملية دقيقة وعاجلة تركت لي عاهة مستديمة».
تضيف نوف: «في أوقات كثيرة كان زوجي يطردنا أنا وأولادي من المنزل ولا يفرّق بين كبير وصغير وبين الليل والنهار. أصبح شرس الطباع قاسي التعامل يحطم الأشياء من حوله دون سبب أصبح رجلاً تسكنه اللامبالاة تجاه أسرته. تهاون بمشاعرنا وأبسط احتياجاتنا ولزم المنزل قابعاً في الغرفة يبحث لنا عن كل كبيرة وصغيرة كي يثير المشاكل وكي يقيم الدنيا ولا يقعدها».
عانت نوف وتحمّلت وصبرت محتسبة الأجر عند الله لا ترجو سوى العيش والستر والكرامة مع زوجها وأولادها. لكنه لم يتركها في حالها فطردها ثم عادت، ليطردها من جديد. وباتت العائلة الليالي مفترشة الحدائق أو زائرة كضيف ثقيل لغرف الطوارئ في أكثر من مستشفى خاص. وأخيراً ذهبت نوف إلى أهلها. «رغم علمي التام بما سألاقيه من زوجة أخي الظالمة مكثت عند أمي المقيمة عند زوجة أخي طبعاً، فزوجة أخي هي الحاكمة الناهية في المنزل وليس أمي ولا أخي. مكثنا عندهم شهوراً طويلة فتأثرت ظروف أولادي النفسية والدراسية وظروف أهلي المادية. كانت زوجة أخي تقسو على أمي الكبيرة الصابرة إلى درجة تقشعرّ لها الأبدان وكانت كثيراً ما تقوم بإغلاق الثلاجة عنا وكل شي حيوي تمنعه عنا. عشت وأمي وأولادي الستة في غرفة واحدة، وكأنها الإقامة الجبرية نتلقّى الويل والثبور عند كل تصرّف تلقائي يبدر من الأولاد. أهلي بمن فيهم أخوتي يحاولون مساعدتي والحق يقال، ولكن كل حسب ظروفه وإمكاناته. في تلك الفترة انقطعت أخبار زوجي عنا أياماً طويلة وبعد بحث وجهد، التقيناه فترة بسيطة وألزمه أخوتي حينها باستئجار منزل بدلاً من المنزل القديم الذي كنّا نسكنه دون ماء ولا كهرباء. لكنه اختفى من جديد ولم يكلّف نفسه حتى باتصال عابر ليسأل أن كنا أحياء أم أموات. يئست من حالته وابتعدت عن كل المحاولات والمشاعر التي كنت أكنّها له وطلبت الطلاق مرغمة بعد كل هذا العذاب والهجران والمعاناة ومشقة المواعيد والإجراءات والنظام وبعد أن طلب مني الشيخ أن أتنازل عن كل شيء ».
لم يكن بد من الانفصال
تنازلت عن حياتها، وعن سعادتها التي باتت ذكرى، لتقرّر المضي في رحلة جديدة، وبحسرة وألم قالت: «حصلت على أبغض الحلال عند الله الطلاق، وعندها أحسّ أولادي بصدمة موجعة مازالوا يعانون آثارها حتى الآن. فأبوهم تنصل من مسؤولياته. غادرهم محطمين ممزقين وبقيت وإياهم نصارع الفقر والحرمان والألم والبؤس والشقاء. أولادي كتب عليهم أن يغادرهم والدهم الذي خذلهم في أحلامهم وأمنياتهم. ونزع الأمان والاستقرار من قلوبهم».
لم تستطع نوف إخفاء حزنها على أولادها خصوصا أنها لا تمتلك من الحيلة أي وسيلة لمعالجة أطفالها وقت المرض. «كثيراً ما يمرض أولادي ولا أجد دواء في حقيبتي، أو حتى مالاً بسيطاً أمنحهم إياه عند ذهابهم إلى المدرسة أسوة بزملائهم. مراراً وتكراراً قطعت الكهرباء، ومنع الماء في أحلك لحظات الصيف الملتهب. عانينا المرّ وتنقّلنا بين شقق مفروشة بحثاً عن السعر الأرخص. حللنا بعض الوقت عند الأهل وبعض الأصدقاء وفي نهاية المطاف عدنا من حيث خرجنا إلى البيت دون كهرباء ولا ماء. كانت فترة الاختبارات النهائية وأمضيناها ندرس كل المراحل من ثالث ثانوي إلى ابتدائي تحت أضواء أعمدة الكهرباء في الطرق القريبة من المنزل».
وتستطرد: «شهور طويلة مضت وأنا وإثنان من أولادي لا نرى بعضنا إلا نادراً بحكم وجودهما في شقق عزاب مع بعض معارفهما وأنا في سكن طالبات مع أحدى قريباتي. أخذتنا صديقة إلى جمعية حقوق الإنسان حيث عاملونا بشكل طيب. حاولوا قدر استطاعتهم ولم يوفقوا وقالوا إنهم جهة رقابية لا جهة تنفيذية. ذهبت إلى جمعية الوفاء الخيرية فتفاعلوا مع مشكلتي. وهناك امرأة من إحدى الدول العربية وقفت عائقاً بيني وبين كل مبادرة خير بحجة أنني كنت من الأغنياء وهناك من هو أحقّ مني. لم أفعل شيئاً وانسحبت بكل هدوء داعية ربي أن لا يجعل هواننا على الناس وأن يبعد عنا القلوب القاسية».
توجّهت نوف إلى الضمان الاجتماعي وبعد إجراءات طويلة عريضة منحت ألفا ريال. إلا أنها لا تكفي حاجة سيدة أصبحت مثقلة بالديون والهموم... «وهنت صحتي وأصبحت بفعل العوامل النفسية والمشاكل الكثيرة المتراكمة آكل فقط كي أبقى على قيد الحياة من أجل سعادة أولادي. ساءت حالتي وتشتّت ذهني كلما تذكرت حاجتي وقلّة حيلتي. لجأت إلى الله وبكيت سراً بكاء المتعفف عن ذل السؤال. إن الفقر يجرح والحاجة تجرح بعد كل تلك الأحلام وتلك السعادة وذلك العز وذلك الرخاء، ولكنها إرادة الله عز وجل ولا راد لقضائه ومشيئته وله حكمه في ذلك، ونحن راضون بما كتب الله وقسّم لنا».
حاولت نوف إيجاد عمل فتوجهت إلى مدرسة ابتدائية في حي العقيق بالرياض درست ابنتي الصغرى فيها وكنت قد سمعت أنهم في حاجة ماسة إلى مراسلة. تفاءلت خيراً لأن وقتها يتناسب مع نظام دوام المدارس. طبعاً في البداية اعتقدوا أنني ربما موجهة أو مدرسة جديدة نظراً إلى شكلي وثقافتي. وقالوا إنهم يريدونني مستخدمة. وتقبّلت الأمر لمدة أسبوع لأن موضوع المواصلات إرباك كبير بيني وبين مواعيد الأولاد في كذا مدرسه وليس لي في الأمر حيله بعد ما كنا نجوب العالم أصبح جل همي أن أوفر لهم لقمة عيش كريمه أقف حائرة، مكبلة على شواطئ الحرمان وأجد نفسي وحيدة مع أولاد ليس لهم قوة ولا ناصر سوى الله ».
وبصوت خائف وبائس قالت: «هناك من أقترح علي الزواج من جديد لكني أرفض تماماً كي لا يصبح أولادي أيتاماً. اخترت أن يكون أولادي محور عقلي وقلبي واهتمامي طوال حياتي. تخلّيت عن أحلامي ودراستي حين أنجبتهم واضطررت للتخلي عن كل شي من أجلهم لأنني أرغب في تكملة مسيرة الحياة معهم حتى يشاء الله لأن ليس لهم بعد الله سواي. دائماً ما يرحل الربيع من حياة أولادي وتتساقط أوراق قلوبهم وهى خضراء. لا أعرف إلى متى سأحتوي آلامهم وحرمانهم وقد استوطن الحزن والألم قلوبهم الحزينة».
وتحدثت نوف عن زوجها قائلة: «أسقطنا ذلك الرجل من دائرة اهتماماته ومسؤولياته وأصبح حسب معلوماتي البسيطة خارج الوطن تركنا عمداً وربما لشئ نفسي قاهر وربما غفلة من عقاب الله. نسفنا من قلبه ونسف معه كل حصاد العمر. ومازلت أبحث عن حل يعيد إلى أولادي أمانهم المسلوب وقلوبهم المكسورة وحقوقهم الضائعة ومستقبلهم المنشود».
الرأي النفسي في وضع نوف
قال الخبير النفسي والاستشاري الأسري الدكتور وليد الزهراني «إن الوضع الذي شهده سوق الأسهم السعودية في الفترة الماضية، تسبّب بإصابة كثير من الأشخاص بالقلق والاضطرابات النفسية الحادة، مما أدّى إلى الكثير من الأمراض التي ألقت بظلالها على علاقات المصابين بأسرهم. وحصل الطلاق والتشرد وبيعت ممتلكات طلباً للمال».
وأضاف: «من أهم الحالات التي شهدناها، محاولة سيدة الانتحار بسبب خسارة زوجها ثروته في انهيار الأسهم».
وبيّن الزهراني أن كثيراً من العيادات النفسية شهدت إقبالا كبيراً من تلك الفئات، إذ نعمل على إعادة تأهيل مثل تلك الحالات نفسياً ثم اجتماعياً». وأوضح أن هناك حالات يتمّ «إرشادها نفسياً من غير أدوية، وهذا الذي نحرص عليه دائماً، بينما هناك حالات يتمّ علاجها بالأدوية، ومن المحتمل أن يتحول المتعاطي لتلك الأدوية إلى مدمن خلال حياته لمقاومة الضغوط التي يتعرّض لها».
الرأي القانوني
أكد المحامي والمستشار القانوني عبدالله السلفي أن نفقة الزوج على أولاده حق قانوني وشرعي لهم لا يستطيع أن يتخلى عنه، كما لا تملك الأم أحقية التنازل عن النفقة لأنه حق مشروع لأولادها. وإن نفقة الأولاد واجبة على الأب سواء أمسك زوجته أو طلقها. وسواء كانت الزوجة فقيرة أو غنية فلا يلزمها الإنفاق على الأولاد مع وجود الأب سواء داخل السعودية أو خارجها. وفي حالة حضانة المطلقة للأولاد فإن نفقة الأولاد على أبيهم، وللحاضنة المرضعة أن تطلب أجرة إرضاعها الطفل. والنفقة على الأولاد تمثل المسكن والمأكل والمشرب وكل ما يحتاجون إليه، وتقدر بالمعروف.
وأضاف: «تراعى حال الزوج لقوله تعالى «فلينفق مما أتاه الله»، فإذا كان الزوج غنياً فالنفقة على قدر غناه، وإذا كان فقيراً أو متوسط الحال فعلى حسب حاله أيضاً. وفي حالة امتناع الزوج عن دفع النفقة يمكن الزوجة اللجوء إلى القضاء، ولا يجوز لها في أي حال من الأحوال التنازل عن حق أبنائها حتى لو مارس الزوج عليها بعض الضغوط أو ساومها على النفقة».
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024