تحميل المجلة الاكترونية عدد 1080

بحث

ديكور 'زن' الحديث...

عندما نسمع كلمة 'زن'، فإن أول ما يتبادر الى أذهاننا صورة مساحة تغطيها سجادة مختارة بعناية، فوقها مجموعة وسائد مريحة. وفي الزوايا آنيتان من الفخار الطبيعي بأشكال بالغة النقاء.
 
تشغلهما أزهار الأوركيد. ولن ننسى بالطبع الروائح التي تنبعث من حاملات العيدان المعطرة. وفوق الجدران صورتان من المطبوعات اليابانية، وعنصرا إضاءة من الورق الشفاف، تدعمهما شمعة أو شمعتان.
 
أما في ما يخص الأثاث فلا بد أن تقفز الى الذهن صور تلك القطع البسيطة ذات الخطوط المستقيمة والمطلية باللاك. تتبادر الى الذهن كل هذه الأمور لتغيب عنا مسألة أساسية، وهي أن ال'زن' - في الأساس - هو موقف وبيئة ومن ثم زخرفة وديكور.

 ولادته الشرقية تحيله الى الفلسفة والطقوس. فلسفة تحث على التواصل بين الذات والطبيعة من خلال التأمل طلباً للسلام الداخلي. ومن أجل ذلك تبدو البساطة مظهراً جوهرياً في نسيجه الفكري والمادي.
وإذا كان من غير المجدي الدخول في تفاصيل اللغة اليابانية لمعرفة أصل الكلمة ومشتقاتها، فإنه من الضروري القول إن هذه الكلمة تشير الى وضعية معينة يعتمدها البوذيون أثناء ممارسة طقوسهم الدينية.
وهي وضعية لا تنفصل عن بيئتها أو محيطها، ترمز الى النور الداخلي.
وإنطلاقاً من خاصية ال'زن ' هذه، يمكننا تصور المشهد الزخرفي الذي تنضوي هذه العملية تحت رايته، والتي أسست فيما بعد لتيار جمالي وزخرفي حمل إسمها عبر القارات.

ورغم قدم هذه الممارسة الفلسفية والطقوسية، فإن وصولها الى الغرب كان متأخراً جداً.
لقد بدأ تداولها على نطاق واسع في بداية التسعينات من القرن الماضي، وهي لم تعكس بداية انفتاح المجتمعات الغربية على ثقافات آسيا وفنونها، بقدر ما كانت إستجابة منطقية لمواجهة إفرازات الحياة المعاصرة ويومياتها المشحونة بالضغوط والالتزامات الصارمة.
لقد أدخل الـ 'زن' مفاهيم جديدة الى عالم الديكور المنزلي، ورفد زخرفته بتصورات مدهشة.

فهو رغم بساطة أشكاله ونقاء خطوطه، استطاع أن يخلق مساحة تعبير غير مسبوقة، وأن يوفر مناخات مبتكرة تكتنز الكثير من الإبداعات المطواعة بإنسجامها مع متطلبات العصر والطبائع والميول السائدة.
وليس أدل على ذلك من التنويعات التي أفرزتها مخيلات المبدعين من مهندسين ومصممين، فجاءت أعمالهم لتثري مجال الـ 'زن' الزخرفي بتصاميم نقية حالمة تنبعث من دفء تعبيراتها آيات من الفرح والسلام تنعش الروح والجسد على حد سواء.
ولم يقتصر الأمر على طرح مفاهيم جديدة في المشهد الزخرفي، بل تعداه الى توفير حلول ثمينة تتلاقى فيها القيم المادية والقيم الروحية، الوظيفية والجمالية، لتقدم الانسان اليوم فرصة جديدة لإقامة توازن حيوي مطلوب من أجل إستمراره في حركة الإنتاج من جهة والتنعم بما ينتجه من جهة ثانية.
توازن دقيق يصعب أن توفره الرؤى المعقدة التي تتحكم في تفاصيل هذا العصر وحيثياته.
ولعل ما شهده العالم من تطور تقني وخصوصاً في مجال الاتصالات، أتاح للـ 'زن' الانتشار الواسع من خلال التعريف به ليس كأسلوب زخرفي صرف، بل أيضاً كأسلوب حياة ومنهج تفكير.
وقد ساعد ذلك في إزالة الكثير من الإلتباس الذي أحاط به في بداية انتشاره، عندما كان يتم الخلط بينه وبين الأسلوب 'الكولونيالي' بالنظر الى ما يجمع بينهما من عناصر مشتركة وغرابة 'أكزوتيكية' لا يمكن تجاهلها.

غير أن الـ 'زن' استطاع وبسرعة أن ينفض عن ملامحه حجب الغموض. ويطرح نفسه كمعادل جمالي للبساطة التي تختصر أناقة خاصة.
فالسحر الذي تمتاز به أشكاله ونقاء خطوطه وسلاسة توليفاته، وكذلك رصانة ألوانه وحياديتها، بالإضافة الى المواد الطبيعية والنبيلة التي تستخدم في تشكيلاته... كل ذلك، ساعد في شيوعه متجاوزاً الحدود بين المدن والأرياف ومتخطياً الفواصل بين النظم والأساليب.
وإذا كان صحيحاً أن تيار الـ 'زن' قد شق بداياته الحديثة عبر الفنادق والنوادي الخاصة والمنتجعات الصحية أو مؤسسات التجميل، فإن تمدده وإتساع رقعته لتشمل المنازل الصغيرة والكبيرة، يعود الفضل فيهما الى إبتكار منظومات من خطوط الأثاث العصرية والاكسسوارات الحديثة التي تتلاءم مع كل الأذواق وتنسجم مع مختلف البيئات.

إن اختيار هذا الإسلوب لا يعود فقط الى تقديماته الكثيرة في المجالات الوظيفية والجمالية، بل يعود أيضاً الى الرغبة في معرفة جذوره الثقافية والتواصل مع مضامينها الفلسفية وتبني طروحاتها العديدة التي تمس جوهر الوجود لمواضيع آنية مقلقة ومثيرة للاهتمام، مثل البيئة والتلوث واحترام الطبيعة والعودة الى الجذور التي تحفظ للكائن الإنساني إنسجامه وتوازنه.
فالتعامل المتناغم مع الفضاءات التي نعيش فيها هو امر ضروري، يتجسد في براعة توزيع الأثاث بشكل منطقي جميل يسمح بحرية الحركة داخل كل مساحة ويتلاءم مع تغير الضوء فيها وتأثيره على النغمات اللونية السائدة، اضافة الى اختيار المناسب من الأشكال والأحجام والمواد، وما تكشف عنه مظاهرها من جماليات متكاملة.
على أن المسألة لا تنحصر في التوزيع والأشكال والألوان، بل تشمل أيضاً المواد التي تتشكل منها العناصر التي تشغل الفضاء. وهي على العموم مواد طبيعية مستخلصة من حضن الطبيعة الأم، مثل الكتان، القصب، الخيزران، القش، الفخار، الخشب، الحصى والحجارة والمواد المعدنية المتنوعة، التي تصاغ باشكال مثيرة في نعومة ملمسها ومظهرها والوانها، مشرقة كانت أو داكنة، باهرة أو صامتة، محايدة أو مشاركة.

فهي في كل حالاتها تغازل الضوء وتغويه فيضفي عليها حضوراً دافئاً ناعماً، مما يؤسس لأجواء ومناخات سليمة توفر الراحة والاسترخاء والسلام، وتساعد في تحرير الفكر وإنطلاق الذات.
وهكذا، من الخاص الى العام، ومن المحلية الى العالمية - ورغم كل التطورات التي يشهدها هذا الإسلوب الذي بقي أمينا لمخزونه الثقافي وعناصر زخرفته الأصيلة - يبقى مساراً متفرداً يستدعي التوقف عنده والتأمل فيه، لمعرفة الخصائص التي رسمت نجاحه والتقديمات التي شكلت ملامحه.
إنه الـ 'زن' الذي أصبح تياراً مكتمل الشروط، تيار يسير عكس كل التيارات.

المجلة الالكترونية

العدد 1080  |  كانون الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1080