فيليب ستارك: يختصر الأزمنة...
يحتل فيليب ستارك منذ 30 عاماً المنطقة الأكثر إضاءة في المشهد الزخرفي العالمي. فهو من خلال إبتكاراته المدهشة يقدم دعوة مفتوحة لدخول عالم الخيال الخصب والابداع الآسر.
'أحب ان أفتح أبواب العقل البشري' يقول ستارك... رغبة يعبر عنها هذا المصمم الشهير ولكنه لا يتوقف عند إعلانها وإنما يسعى عملياً لتحقيقها بحيوية مثيرة للأعجاب. مبتكراته المتعددة، بالاضافةالى جودتها وجمالها وأناقتها، تتوجه إلى كل الفئات والطبقات، تجسيداً لرؤية ستارك الخاصة بالديمقراطية، والتي تنطلق من فكرة أن الأشياء الجيدة والجميلة هي ملك لكل الناس.
من خلال مفهومه الخاص لهذه المسألة، يعمل دائما على تحسين شروط الابتكار ونوعية التصميم وتقديمه بأسعار منخفضة، مما يجعل أعماله متاحة للجميع بعدما كانت حكراً على نخبة من وجوه المجتمع، مسجلا بذلك علامة فارقة جعلت منه رائد 'الديزاين الديمقراطي'.
ورث فيليب ستارك عن والده - مبتكر ومصنّع الطائرات - هذه الموهبة ليبدأ في وقت مبكر مسيرة الحلم والابداع والابتكار.
سنوات عديدة امضاها في العمل على التصاميم والمبتكرات، قبل ان يكلفه الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران مشروع اعادة تأهيل الأجنحة الخاصة في قصر الرئاسة الفرنسية، فابتكر لها العديد من المفروشات، لينطلق بعد ذلك في رفد العديد من المؤسسات العالمية المتخصصة في صناعة الأثاث بتصاميمه التي لقيت رواجاً كبيراً.
عندما يقوم ستارك بتصميم فندق او مطعم فاخر، فانه يعمل على ابتكار سيناريوهات فريدة للمشاهد الزخرفية، تحمل الناس الى عالمه النفسي والخيالي والابداعي الزخرفي... نجد أن إنجازاته في هذا المجال تحولت الى ايقونات ورموز لزخرفة لازمنية، حملت مشاهد الديكور الى آفاق عالمية جديدة.نادرة هي الميادين التي لم تشملها إهتمامات ستارك وإبداعاته، ومن الديزاين الفني الى الصناعي، ومن القصور الفخمة الى المنازل والأماكن العامة، من اليخوت الى الطائرات، ومن فرشاة الأسنان الى الدراجة النارية، وصولاً الى الاخراج الفني لمشاريع السفر الى الفضاء الخارجي.
ولم تغب عن إهتمامه المسألة البيئية، فأعماله ومبتكراته تحمل دلالات واضحة من اجل تعميم فكرة احترام الطبيعة ومستقبل الكوكب.
ولم يتوانَ - في هذا السياق - عن تطوير طليعي لمفهوم البيئة الديمقراطية التي تقوم على الاستفادة من الرياح والطاقة الشمسية، فكان ابتكاره للتوربينات التي تعمل على الرياح لتوليد الطاقة الكهربائية، وذلك باسعار معقولة، اضافة الى ابتكار المراكب التي يمكن تشغيلها على الطاقة الشمسية، والسيارات العاملة على الهيدروجين منعا للتلوث البيئي.
فهذا المبدع، المتمرد، يرى ان من واجبه المشاركة في تحسين عالمنا، من خلال رؤيته الأخلاقية المجددة والتي تسعى لإيجاد عالم عادل، يستمر في اتساقه واستباقه لأحلام الفرد ورغباته وحاجاته، واتخاذ قرارات عمل مدنية وسياسية فاعلة لخدمة المستقبل البيئي، وذلك بكثير من الحب والشاعرية والفكاهة.
ولعل من الأعمال الأكثر تجسيداً لفلسفة هذا المصمم الكبير، إثنان من مشاريعه التي تعكس فكرة ديمقراطية الديزاين، وأبعادها الأجتماعية
'جنة الفاكهة'
المشروع الأول هو 'جنة الفاكهة'، مشروع رائد يتسم باللازمنية. منذ الخطوة الأولى داخل هذا المكان الساحر، نشعر بتلك المهارات والخبرات البارعة التي تقف وراء كل تفصيل.
حكاية هذا المشروع بدأت في الثمانينات من القرن الماضي، فقد أراد أصحاب المشروع الاخوة كلود وجيل وسيرج لوزون تجاوز المشهد المعتاد للمطاعم بمفاهيمها التقليدية، وذلك من خلال تقديم نموذج جديد ومبتكر، حيث يتم تقديم وجبات الطعام في ظل اجواء مريحة وممتعة. وكان منطلق هذه الفكرة ذكريات السفر والتنقل بين بعض بلدان اميركا الجنوبية وكذلك البلدان الآسيوية، يعودون بعدها محملين بذكريات تلك الأماكن ونكهات الوجبات الأكزوتيكية الشهية، خصوصاً المتعلقة بانواع العصير الطازج لأنواع مختلفة من الفاكهة.
وهكذا أنطلقت هذه السلسلة في معظم أحياء باريس والمدن الفرنسية الأخرى، ولاقت من النجاح ما يؤكد أصالتها. وكان اختيار فيليب ستارك لتصميم المساحة الجديدة، الواقعة على جادة جورج الخامس في باريس، هذا الحي الراقي، يعكس اقتناع الأخوة لوزون بعبقرية ستارك وفرادته.
وبالفعل إستطاع المصمم من خلال تصور غير مسبوق، ان يصنع درة زخرفية باهرة. فالبساطة والتكلف يجتمعان تحت سقف هذه المساحة التي تمتد 350 متراً، بشكلها المستطيل. فقد أراد ستارك أن يكشف وجهاً لازمنياً في هذا المكان، معززاً فكرة علاقته بالناس من خلال تأمين مناخ خاص يوفر متعة الروح والجسد، مصحوباً بكل ما هو طبيعي وصحي.
والحقيقة أن مسألة التزيين والتصميم تتنحى هنا أمام ذكاء الفكرة وتميزها. فجاء الديكور كلاسيكياً وحديثاً في الوقت نفسها. اختار فيليب ستارك اشكالاً ومواد لا زمنية من خشب الأكاجو والأينوكس والزجاج المصقول، ساهمت في ابراز قدرة الأنسان وحرفيته.
ونلحظ ذلك من خلال تلك الفواصل الفنية، خصوصاً المبتكرات المصنوعة من زجاج المورانو الملون الذي ابدع مواضيعه الفنان اريستيد ناجيان مستكشفاً من خلال فكرة المشروع الكثير من الأساطير والأوهام المحمولة في انواع مختلفة من الفاكهة. وقد أضاف تلبيس أرضية المكان بخشب الأكاجو الكثير من الدفء والشاعرية، بالاضافة الى إنسجام ذلك مع اجواء الديكور والألوان الزخرفية التي تشكلت لتخدم الفكرة.
وتحقق انجازاً كبيراً حول اعمال الإضاءة، لخلق اجواء مختلفة تتماشى مع مختلف اوقات اليوم، الصباحية منها والمسائية، بحيث تتغير الرؤية والأجواء باسلوب مدهش صادم يخدم الفكرة الأصلية لـ 'جنّة الفاكهة'.
كما نجد شاشات عرض كبيرة تزين الجدران، مشكّلةً ما يشبه النوافذ لدخول لب الفاكهة والاستمتاع بجمالها الذاتي المثير للدهشة. اضافة الى بعض الأفلام التي تحتل فيها الفاكهة المشهد بشكل استثنائي واسلوب مميز.
كذلك اراد ستارك، وخارج نطاق المكان، رسم تصاميم الأطباق وكامل التفاصيل من جهة الى اخرى من فضاء المكان.
إن اختيار ستارك لانجاز هذا العمل، جعل من المكان مختبراً تجريبياً لسيناريوهات زخرفية مميزة، تلتقي فيها الطبيعة مع الثقافة الحضرية.
وعمل فيليب ستارك على التأليف والتنسيق بين المواد النبيلة التي يهيمن عليها بشكل واضح الخشب فوق الأرضية والجدران، بما يتناغم مع السكون المسيطر والأثاث الذي يحمل طابع اجواء ستارك نفسه. ويبدو هذا الأمر جلياً في أظهار جودة المنتجات المعروضة خلف الكونتوار المصنوع من الأينوكس المصقول واللامع مثل المرايا العاكسة.
الموقع المميز والمرصع باللون الأبيض، يجذب الأنظار نحو المساحة المخصصة لتحضير الفاكهة والحلويات والعصير والمثلجات، خلف واجهة الكونتوار التي تعرض المكونات النضرة للمنتجات المغرية والتي تثير الشهية، لتعدد مقبلاتها وعصائرها المثلجة اللذيذة.
اضافة الى ذلك، هذا المد المائج من الشوكولا السوداء والشوكولا البيضاء والذي يتدفق من نافورة عند البار، بحركة دقيقة ومتسلسلة، في اسلوب من الكوريغرافيا المتقنة حتى الكمال.
وقد اعطى ستارك الأعمدة الموزعة في انحاء الصالة أشكالاً لنماذج عضوية مثل جذوع الأشجار المنفذة من الأينوكس والتي تدعم سقفا مضيئا في النهار بنور طبيعي، يوفر الشعور الحقيقي بالرفاهية والراحة، يحاكي الاشعاع الشمسي. الموسيقى لم تغب أيضاً عن هذا الانجاز، من خلال ايقاعاتها التصويرية التي تدور حول موضوع السفر والفاكهة في العالم، استنادا الى الساعات والأيام التي ترافق باشكال مختلفة اجواء المكان.
ومثل الموسيقى يختلف سيناريو الإضاءة وفقا لساعات اليوم، ففي منتصف الليل يعيش زبائن المطعم أجواء أخرى مختلفة تنعكس ايقاعاتها فوق شاشات العرض، فيغرق المكان في أجواء من الأضواء الخفيفة، مانحة المكان بعداً آخر، فينهي الزبائن ليلتهم في اجواء بار مخملي يثير داخل كل شخص زحمة من المشاعر والأحاسيس الجميلة.
'ماما شيلتر'
أما المشروع الآخر فهو فندق 'ماما شيلتر'، وهو فندق باريسي جديد من نوعه، بل هو من الأعمال الزخرفية غير المسبوقة، وتقوم فكرته على إيجاد مكان يحمل طابعاً خاصاً لجيل جديد من الفنادق.
يستمد روحيته من أجواء الجينز وما يمثله هذا اللباس 'الديمقراطي'. ففي باريس التي تضج بالأماكن الفاخرة والمعالم التاريخية الخالدة واللازمنية، كان لا بد من ايجاد مكان ملائم، باختلافه وتماشيه مع اجواء الفكرة.
وهكذا، بعد بحث دقيق، استطاع ستارك ايجاد درته الفريدة:موقف سيارات قديم يقع عند شارع بانيوليه في الدائرة العشرين من باريس.
ومن هنا انطلق هذا المشروع الفريد واستطاع فندق 'ماما شيلتر' منذ افتتاحه أن يثبت حضوره الطاغي، تماماً مثل الجينز، يقفز فوق الفوارق الأجتماعية، ويكسر الأحكام المسبقة التي تقوم على المظاهر الخارجية.
يضم الفندق 170 غرفة موزعة على سبع طبقات، منسقة وفقا لخمسة ألوان. وقد ضمت خمس من الطبقات غرفاً باحجام مختلفة، بينماتفردت الطبقة الأخيرة بعدد من الأجنحة الكبيرة الواسعة التي تنفتح على شرفات مطلة على مناظر احياء الدائرة العشرين من العاصمة الفرنسية.
جهزت غرف هذه الأجنحة بأسرّة من درجة الخمسة نجوم تزينها اغطية من القطن الحريري، وكذلك بكل وسائل الاتصال العصرية المريحة.
اضافة الى التلفزيون والراديو والفيديو... كل صباح وعندما يتوقف المصعد عند إحدى الطبقات، نجد في مواجهة المصعد مرآة كبيرة تكشف عن خريطة لباريس ومواقعها السياحية المتفردة.
هذا الفندق لا يبدو مكاناً للنوم، بل هو أشبه بمرفق في مكان حضري يجتمع فيه النزلاء حول مائدة واحدة للأستمتاع بوجبة شهية او المشاركة في تحضيرها مع رئيس الطباخين في الفندق. أما محبو الأجواء الموسيقية، فيجدون ما يبحثون عنه من مناخات جميلة يستمتعون فيها بتناول الكوكتيلات المتنوعة او مشاهدة فرق تعزف انواعا مختلفة من موسيقى البوب او الروك اند رول. وفي الطبقة الأرضية طاولة عملاقة ترحب بالوافدين، تحيط بها واجهات تضم أطيب انواع الوجبات والحلوى الشهية اللذيذة والمتوافرة على مدى 24 ساعة. وبين الطاولة والأعمدة الموزعة في الصالة، شاشات عملاقة تقدم مقترحات اعلانية متعددة تحث على اللقاء والأكتشاف والحلم.
بينما نجد الى جانب الصالة وفي الركن المؤدي الى فضاء آخر مخصص للألعاب والتسلية، ستارة هائلة منفتحة، تكشف عن حشد من الوجوه المبتهجة التي يمد أصحابها الأيدي كما لو انها تسأل عن عناق ومودة مع الوافدين من البشر.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024