المطبخ: محور المساحات...
كانت الفترة التي امتدت من نهاية الحرب العالمية الأولى الى بداية الثمانينات، من القرن الماضي، فترة إستثنائية في تاريخ المطبخ المنزلي. فقد شهد دور المطبخ خلالها إنحساراً ملحوظاً. ليس على صعيد الأنشطة التي كانت تمارس فيه فحسب وإنما أيضاً على صعيد التصاميم والتجديد والصناعة. ففي تلك المرحلة التي دفعت بالمرأة الى النزول الى ساحة العمل، لتشارك في الورشة العملاقة التي كانت تتطلبها المجتمعات التي عانت من ويلات الحرب، تراجع دور المطبخ المنزلي، تبعاً لنمط الحياة الجديدة، وتحول الى ركن ملحق بالمنزل بعدما كان محوره.
ومع بداية السبعينات عاد المطبخ ليأخذ دوره كقلب نابض للمنزل، وليتحول سنة بعد سنة الى مساحة حية، مضيافة، تتعدى مسألة تحضير الأطعمة والوجبات. فقد أصبح المطبخ الآن الفضاء الذي تتمحور حوله وفيه معظم أنشطة العائلة. فهو ينفتح على المساحات المجاورة، بل ويتداخل معها من خلال سيناريوهات عصرية، تحاور بمنطق واقعي مختلف الأحاسيس، وذلك بأسلوب يحمل الكثير من الحلول الجمالية والوظيفية على السواء.
وهكذا بدأت تشهد صناعة المطابخ - أدوات وزخرفة - قفزات هائلة في التطوير والابتكار، وتقدم حلولاً فريدة لكل المساحات والامكنة.
وتقترح أشكالاً وألواناً وتصاميم تلبي كل الرغبات وتلائم كل الأمزجة وتتوافق مع كل الميول.
تركز هذه الحلول على الدمج بين الأحجام والربط والمواءمة بين كل العناصر من تجهيزات واثاث واكسسوارات زخرفية في عملية ابداعية بارعة يعزز جمالياتها توازن مثالي وانسجام تام بين العناصر بشكل من البساطة غير مسبوق.
فهنا لا حاجة اطلاقا الى البهرجة ولا الى المبالغة في الزخرفة وابهار النظر، بل اللجوء الى كل ماهو بسيط نقي بخطوطه الرصينة المتزنة والتي تطرزها بعض لمسات من الفنتيازيا الناعمة.
انها الروحية الجديدة التي اصبحت تجسد اجواء المطبخ الحديث المعاصر، والذي بدأ يسلط الضوء على الناحية الوظيفية للمكان بمقدار متوازن مع المظاهر الجمالية، فكلاهما يرتبط بالآخر من اجل ولادة جو جديد يعكس مزاج العصر وميوله.
من هذا المنظور نجد ان الكثير من التجهيزات الكهربائية والأدوات الخاصة بالمطبخ، اصبحت مموهة داخل وحدات من الخزائن والأبواب الجرارة والتي تشكل في مجموعها نمط زخرفي موحد لا تشوه انسجامه نغمة شائبة.
كما نلحظ مزيداً من مسطحات العمل المنوعة التي تساهم في تسهيل العمل المطبخي وتعدد أنشطته، وقد تم تصميمها وتوزيعها بدقة محسوبة من اجل التنظيم الواقعي لهذه الأنشطة والحد من الحركة غير المجدية بين كل وحدات المطبخ.
فكل شيء في متناول اليد تقريبا، منظم بمنهجية واقعية، لا تمس جمالية التصميم ولا روحيته وتقنياته الفنية.
تصدت التصاميم الجديدة للمطبخ لكل المشاكل التي يمكن ان تواجه موقعه المحوري، من مشاكل تنظيم المساحة والتخزين وتمضية وقت ممتع في المطبخ. كذلك تعرضت لأهم مشاكله وهي انبعاث الأبخرة والروائح وانتشارها في أنحاء المكان. فكانت الحلول جيلاً مدهشاً من أجهزة الشفط للأبخرة والروائح، والذي كشف الى جانب مقوماته العالية العملية، عن ملامح جمالية مميزة بأحجام وأشكال وألوان ومواد متنوعة، تسهل اندماجه مع كافة أساليب الديكور الكلاسيكية والحديثة المعاصرة. بل وإنه أكثر من ذلك فقد أصبح شفاط الروائح - مثلاً - أشبه بعنصر زخرفي مهم يدور حوله التصميم الزخرفي.
فهو تارة يتوسط مساحة المطبخ ليخلق وحدة رئيسية، تندمج فيها الخزائن والطباخ والبار الذي تتجمع حوله العائلة بجلسة حميمة لتناول الفطور أوالوجبات السريعة. أو يتصدر جدار أو زاوية ليمارس دوره الرئيسي في تنقية الأجواء وتجديد الهواء في المكان.
لم يكن للتصميم ان ينجح في طرح هذه السيناريوهات الرائعة من أجواء المطابخ الحديثة، في غياب خيارات دقيقة ومحكمة من تقنيات ومواد، والتي تلعب ادواراً مهمة في التقويم الجمالي والمادي للمطبخ.
فالمطبخ الحديث اصبح اليوم مزوداً بكل التجهيزات الضرورية للحياة المريحة والرفاهية، من طباخ وفرن ومايكرويف وغسالة للصحون، وغير ذلك من تجهيزات ضخمة، اضافة الى الأدوات الكهربائية الصغيرة الخاصة بتحضير المأكولات او القهوة.
والتي تحتل أماكنها الخاصة في المطبخ بتراتب يتماشى مع مختلف الأنشطة فيه والتي دفعت مبتكري المطابخ الحديثة الى ابداع احجام واشكال والوان مدهشة لتتناغم مع الأجواء العامة المفترضة لتصاميم المطبخ والتي يغلب عليها خيارات أساسية من اللون الأبيض اللاك... الى مشتقات من البني والرمادي وغيره من الألوان والتي تسبح ايقاعاتها في بحر من النعومة، تطرزها في بعض الأحيان ألوان داكنة من البني والوينغي الذي يتأرجح بين البني والأسود، وذلك من أجل إيجاد جو من التصادم والمواجهة الزخرفية الجميلة، التي تفعّل الأجواء وتطبعها بنفحة من الإثارة.
فالتطريز الزخرفي هذا قد يكون جانباً من جدار أو قطعة أثاث أو أكسسوار، يدخلها التصميم الى هذه المواجهة لإيجاد نوع من التوازن والإغواء البصري، والذي يكون في العموم محسوماً بنتائج مدهشة مثيرة.
لماذا يعود اللون الأبيض الى واجهة المطابخ الفاخرة ليشكل عنواناً بارزاً من عناوين مبتكراتها؟ الجواب هو ما يمثله هذا اللون من أناقة وإشراق وما يرمز إليه من نقاء يعني النظافة.
فتصاميم المطابخ بخطوطها البسيطة المدهشة وواجهات الخزائن المطلية بهذا اللون الثلجي اللامع، تمنحه مظهراً ناعماً ورونقاً آسراً، يتناغم مع الكثير من الاكسسوارات، كما انه يعزز من وهج الاضاءة المباشرة او المموهة خلف بعض قطع الأثاث والجدران، مما يجعل من جو المكان واحة أمان وتفاؤل دائم.
الإينوكس هو من المواد الكثيرة الإستخدام في المطبخ الى جانب الزجاج، وهو حليف للتصميم، بكل مواده وألوانه.
حليف لخشب اللاك الأبيض، فهو يؤطر خزائنه أو يموّه ويحجب بعض التوصيلات التقنية أو يغطي بعض الأسطح، خصوصاً سطح المجلى أو يلبس جوانب جهاز شفط البخار، الى ذلك من أدوار يبرع المبتكرون في توزيعها على كل نموذج من نماذج تصاميمهم، مؤكدين بذلك أنه من المعادن الرائعة والمتينة غير القابلة للصدأ والتي تتعايش مع كافة المواد وألوان الطلاء، يعتبر استثنائي نسبة الى غيره من المعادن لما يوفره من تغطية مدهشة للمساحات الواسعة وتصاميم الديزاين بما يؤمن لها من متانة ومقاومة نادرة، إضافة الى كونه سهل الصيانة، بحيث يتم تنظيفه بقليل من الصابون يشطف بعده بالماء الدافىء و يمسح بفوطة ناعمة. مع استبعاد استعمال كل أنواع وأدوات التنظيف الأخرى والليف المعدنية التي تصيب سطحه بخدوش، حريرياً لامعاً كان أو خفيف اللمعان ناشف.
وبين الاتجاهات الحديثة لتصاميم المطابخ، عودة الى الخشب الطبيعي الدافىء الألوان والخشب الإفريقي المعروف بالوينغي الذي أعاد المصممون خصوصاً في ماركة «فارينا» الإيطالية الفاخرة تعزيز حضوره، لما فيه من أصالة ومعايير الدفء والحميمية، وهذه صفات تسخن الأجواء الداخلية للمطبخ الذي تزيده الأركان المتنوعة داخله من جلسة الطعام والمكتبة رونقاً خاصاً وجاذبية. لا تقل عن أجواء الصالون وبقية الصالات والغرف. فالأناقة أصبحت اليوم تمر عبر المطبخ.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024