مزيج من الأصل والظل...
ليس الغموض الذي يحيط بتاريخ ولادته ومكانها هو سر سحره وجاذبيته، بل تلك الخاصية التي تميزه عن الأقمشة المعروفة بكل أنواعها. ولأنه يقف على حافة الحياكة فهو نسيج نفسه، مزيج من الأصل والظل. إنه «الدانتيل». بدأ في الملابس - كما يجمع المؤرخون - في القرن السادس عشر، ثم تسلل الى داخل المنزل من خلال مساحات خجولة لا تتعدى الأجزاء الصغيرة من اكسسوارات الأثاث. ليصل حضوره اليوم ليس فقط الى معظم أثاث المنزل بل يتعداه الى الى الخارج، ليتصل بالمعمار، متجاوزاً مواده الأولى، الخيوط والأقمشة، ليطرق أبواب مواد جديدة لم تخطر في بال، مثل الأخشاب والمعادن والبلاستيك وغيرها.
خطوات بطيئة، صحيح، غير أن الدانتيل يعلن اليوم عن نفسه عنصراً بارزاً في مجال الزخرفة المعاصرة. وقد عززت التقنيات الحديثة حضوره وفتحت للمصممين آفاقاً جديدة غير مسبوقة.
سهلت التقنيات الحديثة، من الليزر وغيرها، عمليات التخريم الدقيق والجميل، بحيث لم تعد أي أفكار وتصاميم ورسوم عصية على التنفيذ. ولم تعد صلابة المواد أو غرابتها عائقاً أمام هذه العمليات.
فتحولت الأخشاب والمعادن والزجاج إضافة الى المواد المصنعة مثل الرزين وصولاً الى الإسمنت المسلح، الى مواد طيعة، يمكن التعامل معها تماماً مثل التعامل مع الأقمشة والأوراق والكرتون. وهكذا جاءت ابداعات المهندس المعماري الايطالي Angelo Tomaiuolo لتجسد روحية جديدة في فن التصميم امتزجت فيها النعومة بالجسارة لتجعل من كرسيSwing chair تصميماً زخرفياً مثيراً للفضول بما يتمتع به من خطوط نقية جذابة وشكل حسي اراده الفنان ليضفي على هذا الكرسي المصنوع من الدانتيل المعدني طابعاً مميزاً بالأناقة العصرية والخفة.
من الناحية العملية قد يكون تصميم كرسي او طاولة من الدانتيل امراً سهلاً، اذ يكفي الحصول على قطعة من هذا النسيج وتثبيتها فوق المكان المراد تخريمه، لنسخ زخرفته او اضافة تفاصيل صغيرة اليها. لكن اهمية هذا الابتكار تنطلق من فكرته، فمجرد التفكير في استخدام الدانتيل لتخريم المعدن أو أي مادة اخرى، يؤسس لابتكار خط حديث من قطع الأثاث بخطوط ناعمة انثوية الرونق، بما يجعلنا نفكر اننا في بداية طريق الابداع وان امام هذا النمط من الدانتيل سنين مقبلة جميلة.
كذلك نجد في معالجته لتصميم طاولة القهوة Table basse wawe أنه ينطلق من المبدأ نفسه مستعملا ورقة رفيعة بسماكة 3 ملم من المعدن المعاد تدويره، لتخريمها وتقطيعها بواسطة الليزر لصنع هيكل بحركة مميزة تسمح بتثبيت لوح من الزجاج على سطحها، مما يمنح هذا التصميم رونقا خفيفاً رائعاً بخطوط نقية مدهشة.
ان الكرسي والطاولة والعديد من الاكسسوارات المنفذة بأسلوب الدانتيل، تعكس جانبا من رؤية هذا المهندس الشاب وحساسيته القوية تجاه لعبة الضوء والظل والسطوح المخرمة والتي نجدها أيضاً في بعض مشاريعه الهندسية المعمارية مثل مشروع بناء الرقص فوق الماء، الذي تم تنفيذه في «ليول بارك» في سيول. حيث نرى مرة اخرى ان التخريم الكبير لهياكل البناء يغذي لعبة الضوء والظل فوق الماء، كما ان خطوطها الملتوية تساهم في تلطيف الشكل وهي ميزة من ميزات اسلوب انجلو الذي يطغى على العديد من مبتكراته.
وأنجلو ليس الوحيد بين المصممين الذين جذبهم جمال الدانتيل، فتناولوه في مواضيع تصاميمهم، بل ان الكثيرين غيره تناولوا باهتمام هذه الفكرة وكأنهم يكتشفون رونق الدانتيل للمرة الأولى. فعملوا على تطوير نقوشه وزخرفته الرومانسية الجميلة على صورة العصر ومزاجه الزخرفي وتياراته. فتنوعت المبتكرات وتطورت اشكالها بخطوط رشيقة بالغة الصفاء تتناغم مع الطابع الأنثوي للدانتيل ونعومة تفاصيله.
صفات لم تمنع المصمم الهولندي Tord Boontje من تطعيم مبتكراته البارعة بلمسة من الطرافة والجسارة، فهذا المصمم يحب تأثير النور على النبات والأشياء وبريقه فوق الجليد وانعكاساته فوق البلور، لذلك جسدت مبتكراته في اغلب المواضيع لعبة الضوء والظل.
فهو يحاول استكشاف طبيعة التناقضات بين القديم والحديث والتكنولوجيات المبتكرة، فيستخدم تقنياتها بوسائل متعددة مبدعا قطعاً من الأثاث والاكسسوارات ذات قيمة جمالية خاصة، رومانسية وشاعرية، مستحضراً من بواسطتها الطبيعة بصور حالمة يبرعم فيها النبات والأزهار بمشاهد مثيرة، مستخدماً في الكثير من الأوقات الورق الشديد المتانة والقماش الذي يخرمه كالدانتيل باساليب مدهشة غاية في الابتكار والطرافة. فمن «اباجورات» النور المخرمة، الى الأرائك والكراسي والمصابيح والثريات والستائر والبياضات المنزلية، يحقق تورد بونتج فضاءات مدهشة يتلاعب فيها الضوء والألوان البراقة الزاهية و التي عمل المصمم على تكرار النقوش فيها للحصول على تأثير بصري لافت.
واذا كان العديد من المصممين ذهبوا بابداعهم نحو اثراء اجواء المنازل الداخلية بهذه الأنماط من الابداع، فان الفنانة الكندية Cal Lane سارت في اتجاه آخر لتغذي بمبتكراتها وتحفها الفنية العديد من المتاحف وصالات المعارض العالمية من خلال نماذج غير مسبوقة من العربات والمعاول والمنحوتات المختلفة الأشكال المنفذة من المعدن الصلب على نمط مشغولات الدانتيل، غير انها تبقيها في حالتها الأصلية الخام بلا طلاء.
فالتخريم الذي تنفذه هذه الفنانة المبدعة يتم وبشكل حرفي ماهر، تستخدم فيه النار ووسائل اللحام التقليدية والتي تؤدي في النهاية الى نتائج بارعة المظهر غنية بالمفارقات، فالزخرفة النباتية غير المتوقعة تكسب تلك المبتكرات طابعاً دعابياً طريفاً.
الكروشية
أما «الكروشيه» وهو النوع الآخر من الدانتيل الذي يحمل طابع المشغولات الحرفية، فكان له نصيبه في هذا الجو من الابتكار من خلال ابداعات Marcel Wanders، المصمم الهولندي الذي عمل على صياغات مستمدة من بعض مشغولات الكروشيه التقليدية مبتكرا طاولة للقهوة تحمل الاسم ذاته، منفذة من مادة الرزين الصلبة التي تمنح التصميم طابعاً عصرياً.
والمميز في هذه الطاولة انها الى جانب ما تتمتع به من مظاهر الحداثة تحتفظ بزخرفتها المستمدة من الماضي وكأنها همزة وصل بينه وبين الأجواء الحديثة المعاصرة.
وهو مثل غيره لم يتوقف في ابتكاره على بعض قطع الأثاث بل توج هذا الأمر بالعديد من التصاميم لاكسسوارات مختلفة، تحتل مكانها المهم في اجواء الديكور المنزلي. من مصابيح للاضاءة وغيرها من المبتكرات التزيينية التي انتجتها ماركة Moooi الشهيرة.
بينما تذهب المصممة الدانماركية لويز كامبيل بعيدا في تصوراتها لكرسي «اوريغامي» الذي تجمع في تصميمه العصري المدهش بين التكنولوجيا الحديثة البارعة وتجانس المواد. فهذا الكرسي الدائري الذي يغري بالجلوس مصمم على شكل وعاء تتكرر في تركيبه 240 دائرة معدنية، تم تخريمها بالليزر. وقد انتجت هذا الكرسي الأنيق ماركة Zanotta الايطالية.
من الصعب جدا حصر الأسماء والأعمال المدهشة التي اتيح تظهير بعضها من خلال هذا الموضوع، فهي تعكس أنماطاً من التفكير الزخرفي وتستكشف آفاقاً جديدة، وتعد بمساحات مفتوحة لابتكارات مثيرة، خصوصاً ان التكنولوجيا الحديثة اسقطت من قاموسها كلمة «مستحيل».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024