تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

حدائق معلقة فوق جدران المدن!

هي حدائق معلقة.. بكل ما للكلمة من معانٍ... وأمامها، يستحيل التعبير الصامت، بل لا بد من آهة دهشة أو كلمة إعجاب وبصوت مسموع. وربما، بإختصار شديد تكفي «واو»!  فكرة تتجاوز السائد لتجذر مفهوماً جديداً لجمال الطبيعة والتواصل معه. ففي مدن الأسمنت، تتحول الجدران  الصلبة والعملاقة الى خامة فنان مطواعة يوقع عليها باتريك بلان إبتكاراته بمفردات فريده من قاموسه السحري.

لا أحد أفضل من باتريك بلان يعرف اسرار النباتات وطبائعها وأمزجتها، ولا أحد مثله يجيد لغتها. فهذا الفرنسي المبدع الذي بدأ مشواره مع الطبيعة والحياة في سن مبكرة، إستطاع بمثابرة فريدة وتصميم عنيد وشغف لا حدود له أن يبني له عالماً خاصاً لا  شبيه له. عالم تمتزج فيه الشاعرية بالحلم، وتتجاور في فضاءاته المهارة والمعرفة، وتتشكل ملامحه من موهبة وإبداع.
كان صغيراً يزين جدران منزل والديه في الضاحية الباريسية، فيزرعها بنباتات السرخس (الفوجير) الجميلة  بحبكة بارعة اثارت دائما فضول الجميع واعجابهم. وها هو كبيراً يزرع أحياء المدن والأمكنة بالغابات.

باتريك بلان صاحب اليد الخضراء هو اليوم واحد من أشهر علماء النباتات في العالم. يتنقل بين المدن والعواصم مثل فراشة ليزرع جدرانها، ويحولها الى حدائق معلقة تمنح المدن مظهراً بهيجاً وسكانها مساحة من الحلم والخيال.
ينطلق عمل باتريك بلان من حقائق تؤكد بأن نباتات كثيرة تعيش وتنمو وتستمر دون تربة، ولا تتغذى من الأرض.
فجذور النباتات تبحث في الأرض عن المياه فقط، اما العناصر الأخرى التي تحتاجها في حياتها مثل السكر والبروتينات فإن أوراقها كفيلة بإنتاجها. وإنطلاقاً من هذا المبدأ العلمي، تنمو نباتات كثيرة فوق الصخور والمساحات الصلبة، مسطحة كانت أو عمودية. ففي ماليزيا مثلاً  أجريت دراسة شملت أكثر من ٨٠٠٠ نوع من النباتات، وتبين أن أكثر من ٢٥٠٠ نوع منها تعيش فوق منحدرات الصخور وعند جذوع الأشجار دون تربة.
وتبين أيضاً أنه حتى في المناطق المعتدلة  المناخ، فان أعداداً كبيرة من النباتات تتشبث بالمواقع والمنحدرات المشمسة وبالقرب من الشلالات والمنحدرات الشديدة، كنباتات «البرباريس» الشائكة التي تكشف فروعها عن تقوس طبيعي  وليس أفقياً على عكس ما نزرعه في الحدائق الآرضية المعتادة.
وهذا يؤكد أن جذور النباتات قادرة على امتصاص المواد مهما كانت خفيفة على السطح او شقوق الصخور ما دامت المياه تظل متوافرة.

وهذا ما يحصل بالتحديد عندما تتشبث النباتات وتستقر تلقائيا بين الحجارة وكتل الأسمنت في الأبنية والمنشآت المعمارية.
غير أن باتريك بلان يحذر: «إن انتشار النباتات غير المنضبطة وطغيانها فوق الجدران، يجعلان جذورها تمتد داخل التشققات وتزيد إتساعها مما يخلّف أضراراً في المباني تتمثل في تفكك الجدران وإتلاف تماسكها بشكل تدريجي. وهكذا سيكون من الخطورة بمكان ترك هذه النباتات  بعشوائيتها تنمو فوق الجدران دون نظام ري دائم للجذور.
وذلك لتأمين نموها على سطوح مشابهة لسطوح الصخور التي تكسوها الطحالب والنباتات المختلفة».
إنطلاقاً من هذه الملاحظات والدراسات العلمية، تركز عمل باتريك بلان، فعمل على رفد هذه الجدران بأنظمة ري ضرورية لأستمرار حياة النباتات فوقها. وهذه الحدائق المعلقة يمكنها الأستمرار الى ما يزيد على ٣٠ عاماً، مع قليل من الصيانة والأهتمام. براءة هذا الأبتكار الذي سجله بلان بإسمه، ترتكز على أسلوب جديد في «ثقافة» الزراعة المعلقة، أو العمودية. وإن أنجاز هذا العمل يتطلب التغلب على مشاكل الأوزان، من خلال ركائز المبنى، وذلك لضمان انتشار الغطاء النباتي على كامل مساحات الجدران مهما بلغ إرتفاعها. 
من المؤكد ان هذا النوع من الحدائق المعلقة والجدران النباتية، قابل للتحقيق في أي بيئة مغلقة مثل المتاحف وداخل الأبنية والمراكز العامة، شرط ان تؤمن لها الأضاءة الكافية. كذلك فإن اختيار أنواع النباتات يأخذ في الأعتبار وبشكل اولي ظروف المكان المناخية، وكذلك الأسلوب الذي يُعَد فيه الموقع.

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078