تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

تألق من جيل إلى جيل

بالأبيض والأزرق ترفل هذه الدار العريقة التي تعود إلى آل العنّابي في قلب منطقة سيدي بو سعيد التونسية النابضة بالحياة. منذ أواخر القرن الثامن عشر، تاريخ تشييدها على يد جدّ العائلة المفتي أحمد العنّابي، وهي متوارثة حتى أيامنا من الأجداد إلى الأبناء ثمّ إلى البنين، وتتألّق رونقاً وجمالاً كل ما مرّ عليها الزمن.

قبل الدخول في التفاصيل الهندسية لهذا المنزل، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ تاريخاً عريقاً مرّ عليه. ففضلاً عن أنّه يعود الى القرن الثامن العشر، فقد عاصر تاريخاً دينياً وسياسياً لكون الجدّ أحمد العنّابي كان مفتياً، ثمّ الإبن طايب الذي سكن المنزل أيضاً، شغل منصب نائب في البرلمان التونسي، ومن ثمّ كان أول سفير لتونس في المملكة العربية السعودية في العام ١٩٥٦.

واليوم يقطنه الإبن الأصغر الدكتور بلال العنّابي وزوجته السيدة صونيا بو هوالا، محافظين على ما ورثاه بكلّ تفاصيله الدقيقة بعناية تامة، إذ يخال الناظر إلى المنزل وتحديداً إلى أثاثه أنّه منفّذ حديثاً.

لا يشذّ المنزل عن قاعدة بيوت منطقة سيدي بو سعيد التي لها طابع خاص، فاللونان الأزرق والأبيض يعتبران قاسماً مشتركاً لمعظم بيوت هذه المنطقة. ربما هي هكذا لتتماشى مع اللون الأزرق للشاطىء الذي تطلّ عليه منطقة سيدي بو سعيد.

كما أنّ الزخرفة للأبواب والنوافذ الخارجية من الحديد الأزرق  والتي هي من صميم الهندسة التونسية، حاضرة إلى جانب المسامير من الحديد الأسود التي زيّنت الباب الخشب الرئيسي للمنزل، وهي من مميّزات هندسة منازل منطقة سيدي بو سعيد. هذا الباب المحاذي للطريق المعبّدة بحجارة مربّعة والتي تضفي على المنطقة رونقاً خاصاً وحميمية فريدة، ينفتح على بهو من الطراز الأندلسي تتفرّع منه المداخل والممرات.

وقبل الدخول من أحد المتفرّعات، يمكن للزائر ان يستريح في كنف هذا البهو الذي توّزعت في أرجائه المقاعد من الحجر الموزاييك وفي وسطه نافورة ماء. وحدّدت زواياه شتول الياسمين وأشجار نبتة الحنّة وغيرُها. في البهو مداخل عدة توّحدت في الزخرفة لجهة الخشب واللون الأزرق إلى جانب القبب التي تحددت بمزيج من اللونين الأبيض والأسود.

ومن البهو يقودنا درج خارجي إلى جناح خاص بالضيوف من حديقة وغرف نوم، حيث كلّ وسائل الراحة موجودة لإحتفاء المالكين بضيوفهم. كما يقود إلى قاعة الصلاة العائلية.

من البهو في الطبقة السفلى أبواب تقود إلى متفرّعات وأجنحة خاصة. أما الباب من الخشب الزاهي اللون فشاهق العلو ومزخرف بنقوش محفورة عليه، ومسامير سود حدّدت إطار الزخرفات، فيفتح على مصراعيه للإفشاء عن مكنونات هذا المنزل الفريدة.

الرحلة في هذا القصر تبدأ في الجلسة الشرقية، وهي الجلسة الأولى ويعتبرها المالكون جلسة صيفية. ندخلها تحت قنطرة من الخشب المنحوت والمطعّم باللون الذهبي. مقاعدها من الحجر الموزاييك والأرائك من السجاد الحرير من العمل الحرفي. ومن هذه الجلسة تتفرّع ثلاثة أبواب يقود كلّ منها إلى جناح قائم بذاته.

أحد الأبواب من الخشب المنقوش بمسامير من الحديد ينفتح على قاعة استقبال فسيحة تتسع لعدد كبير من الزوار. مقاعدها من خشب السنديان المزخرف، وجدارنها تشكّل معرضاً دائما للفن لما تضمّه من قطع أثرية وجداريات ولوحات زيتية. أبرزها مرآة بشكل نافذة، جانباها من الخشب الخفيف النحت باللون الأخضر الزاهي و أعلاها منحوت بدقّة لافتة باللون الذهبي.

وفي هذا القصر غرفة مخصّصة للراحة تعرف في تونس بـ«بيت الحجّام» أثاثها من الخشب يعود الى العام ١٨٩٠، وهو الأقدم في المنزل. وشغل حائطاً منها صندوق من الخشب الطبيعي بلونه الداكن حفرت عليه الورود، إلى جانب جرن من البورسلان المطعّم بالمعدن.

اللافت في الجلسات أنّ الجدران البيض لم يظهر عليها اللون الأبيض بوضوح لكثرة القطع التي علّقت عليهما، كما أنّ القسم السفلي منها إرتدى الحجر السيراميك المزخرف مقابل البلاط في الأرض من السيراميك أيضاً الذي غلب على معظم الجلسات وخصوصاً على الحمامات. فأحد الحمامات مثلاً باللونين البني والبيج، جدرانه كلّها من الموزاييك، فيما السقف العالي الإرتفاع فقط من الطلاء البيج.

المطبخ تصميمه لافت. طغى عليه اللون الأبيض للخزائن التي زيّن وسطها الحجر الموزاييك منه المربع ومنه المستطيل. النور دخل من كلّ الاتجاهات إلى المطبخ الذي يطلّ على البهو الخارجي وخصوصاً من النافذة نصف المستديرة من الخشب الازرق الذي عكس نوراً إضافياً إلى الداخل.

ولا بدّ لمنزل الأصول والعراقة أن يكون للعلم فيه حصة كبيرة، فالمنزل يضمّ مكتبة ضخمة تحتوي على مخطوطات ووثائق وكتب مخصّصة للفن والتاريخ والتراث.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079