'مدائن صالح' تحفة معمارية...
«مدائن صالح»، أو كما عُرفت في القديم «مدينة الحجر»، هي إحدى المدن التي لا تزال تسكن في حواشي حاضر السياحة العربية مع أنها قريبة منّا تحليق طائر.
فمن الغريب أننا نادرًا ما نبحث عن الساكن في كواليس الذاكرة التاريخية لأوطاننا فلا نكلّف أنفسنا التفكير فيه، ليس عن قصد بل عن عبثية التسليم جدلاً بأن ما بحوزتنا لن يفلت من صفحات أيامنا، وندّعي حكمًا أن ما قرأناه في كتب التاريخ والجغرافيا حين كنا تلامذة نعرفه جيّدًا وحفظناه غيبًا، فنؤجل فضولنا للتجوال بين أروقته، والـتأمل في سطوره المتجسّدة روائع معمارية تعكس الحضارة الخاصة بنا والتي تشكل لا وعينا الشخصي لماضي المجتمع الذي نعيش فيه.
إذا كانت بترا قد جذبت أضواء الشهرة السياحية بروائعها الفنية المنحوتة في الصخر منذ آلاف السنين، فإن «مدائن صالح» المحفورة في جوف الصخر وسط الصحراء الذهبية في السعودية من أهم المواقع الأثرية في الجزيرة العربية والشرق الأوسط، وهي موجودة قبل ظهور الإسلام في منطقة العُلا في وادي القرى بين المدينة المنورة وتبوك.
و«الحجر» اسمها القديم، يعود إلى ديار قوم ثمود الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم والذين لبّوا دعوة نبي الله صالح ثم ارتدوا عن دينهم وعقروا الناقة التي أرسلها الله آية لهم.
تستمد «مدائن صالح» شهرتها التاريخية من موقعها على طريق التجارة القديم الذي يربط جنوب شبه الجزيرة العربية ببلاد الشام.
وتشير الأبحاث الأركيولوجية إلى وجود آثار تدل على الاحتلال النبطي والروماني. وبحسب علم الآثار فقد سكن الثموديون مدائن صالح في الألفية الثالثة ق.م، ومن بعدهم سكنها اللحيانيون في القرن التاسع ق.م، وفي القرن الثاني ق.م احتلّ الأنباط المدينة، وأسقطوا دولة بني لحيان واتخذوا من بيوت الحجر معابد ومقابر، فبحسب المؤرخ ديودور الصقلي أن الأنباط أسّسوا مملكة عظيمة، امتدت من عاصمتهم البتراء «سلع» شمالاً إلى الحجر «مدائن صالح « جنوباً، و أقدم دليل يشير إلى وجود الأنباط يعود إلى القرن التاسع الميلادي.
وكانت بداية نشأة مملكتهم في مدينة سلع المسماة حالياً البتراء، وهي العاصمة السياسية للأنباط . وبعدها قرروا السيطرة على طريق التجارة القديم، وأسسوا عاصمتهم التجارية «الحجر» أو «مدائن صالح».
تمتد «مدائن صالح»، التي يمكن أن يطلق عليها المتحف المفتوح، على مساحة 13.39 كيلومتراً مربّعًا وتضم آثارًا قائمة وأخرى تنتظر الكشف عنها. تتمثل الآثار القديمة في أماكن العبادة والنقوش الصخرية التي تركها الأقوام المتعاقبة وهي ثمودية ولحيانية ونبطية.
يبلغ عدد المدافن في مدائن صالح 131 مدفناً تعود إلى الفترة من العام الأول قبل الميلاد إلى العام 75 ميلادية. تتميز المدينة بالهندسة المعمارية الفريدة والنقوش التي حفرت على جدرانها مما يجعل المتجول بين أروقتها مدهوشًا ببراعة بنّائيها القدماء، فيحار في دقة النقوش وروعتها.
فالتجوال في هذه المدينة تجوال في عالم منحوت على صخور واقفة منفردة وسط عالم متموج من الرمال، وجزر من صخور الحجر الرملي المتحللة التي تآكلت وتموّجت لتصبح أشكالاً منحوتة رائعة تغازل منظر الهضاب الذهبية لحظة الغروب.
قصر الصانع
أول القبور هو قصر الصانع، ورغم أنه ليس على درجة كبيرة من الفخامة ، فإنه بمثابة مقدمة للعناصر الرئيسة للطراز النبطي للقبور، وهي الواجهة العظيمة، والشكلان المكوّنان من خمس درجات، والنقوش في أعلى الباب.
وداخل القبر فتحات كانت توضع فيها الجثامين. وهناك عشرون ضريحًا بحالة جيدة من أفضل القبور المحفوظة في مدائن صالح، إلى جانب العديد من الرموز التي يبدو أنها تربط أجيالاً من التصوير الثقافي المستعار من الأحباش والمصريين، وغيرهم، وتُظهر أشكالاً تبدو كالغرفين (جسم أسد بأجنحة) برؤوس بشرية، وأشكالاً تشبه الورود مرسومة على زبدية استخدمت ضمن طقوس مصاحبة للجنائز، وفي الخريمات بيوت مبنية من اللبن، وبئر نبطي.
جبل اثلب
يقف جبل إثلب بشكل بهي في الشمال الشرقي، ويحيط به فضاء واسع. وكما في مدينة البتراء بالأردن فلهذه المنطقة طريق ضيقة تسمَّى «السيق»، ونُحتت داخل الصخرة صالة كبيرة مفتوحة تسمى الديوان، محاطة بعمودين وبعض المصطبات الحجرية على الجدران الثلاثة الداخلية.
ونقلاً عن المكتشف تشارلز داوتي 1888م، فقد كانت هناك عتبة، وقد سقطت مع مقدّم السقف.
وهذه الغرفة باردة بشكل لطيف إذ تتسرّب النسمات العليلة إليها دومًا، لأن واجهتها الشمالية لا تدخلها الشمس، ويوحي المكان بشعور عميق بالأمن والهدوء، مما يجعله مهيباً، ولا أجمل من تسلق جبل إثلب للإستمتاع بمشهد خلاّب يحبس الأنفاس، لمدائن صالح الساكنة في هذا المكان منذ آلاف السنين.
قصر البنت
يتميّز قصر البنت بمجموعة حيتان داخل مثلث نُحتت عند أعلى المدخل ، ويبدو أنها تمثل حارس القبر، مما يدلّ على التأثير الإغريقي في الفن النبطي.
ويلاحظ أن هذا القبر لم يكتمل بناؤه، مما يشير إلى تقنيات الهندسة المعمارية التي كانت ترتكز إلى البناء من الأعلى إلى الأسفل، وتبدو الوردية على هذا المدخل طبقاً مزخرفاً يستخدم في المناسبات الدينية، مما يدل على أن هذه المباني قبور.
القصر الفريد
يعدُّ القصر الفريد أشهر المقابر النبطية في مدائن صالح وأجملها، إذ يتميز بواجهة شمالية كبيرة جدًا، وسُمي بالفريد لتميّزه بكتلة صخرية مستقلة، وكذلك لاختلاف واجهته الكبيرة عن المقابر الأخرى في مدائن صالح.
ويلاحظ دقة النحت وجماله في الواجهة، ورغم روعة هذا القصر فإنه غير مكتمل النحت، لأن العمل في أسفل الثلث الأخير يبدو غير منجَز.
محلب الناقة في الخريبة
محلب الناقة هو عبارة عن حوض كبير يقال إن ناقة صالح كانت تحلب لبنًا يشربه الناس وتشرب الماء، إلا أن علماء الآثار أجمعوا على أنه بقايا معبد لحياني قديم وليس محلب ناقة
أعلنت الأونيسكو عام 2008 «مدائن صالح» موقعاً تراثياً عالمياً، وبذلك يصبح أول موقع في السعودية ينضم إلى قائمة مواقع التراث العالمي. بعد ذلك تم ضم حي الطريف في مدينة الدرعية التاريخية إلى القائمة.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024