تحميل المجلة الاكترونية عدد 1080

بحث

باريس وبروكسيل...

البحث عن اختيار المكان الأنسب لتمضية شهر العسل يُشبه بحث الشريكين عن اختيار اسم مولودهما الأوّل. الاحتمالات كثيرة. ووسائل البحث أكثر.
الكتب، الإنترنت، الأصدقاء، المعارف... وتبقى موافقة الطرفين واتفاقهما على المكان هي الأهمّ.
قد يكون شهر العسل من أكثر الأوقات خصوصية في حياة الزوجين.
لذا فإنّ اختيار مكان شهر العسل يجب أن يكون مقروناً بشروط لا تخصّ سواهما. أسبوعان هي مدّة رحلتنا المُقرّرة.
كنّا أنا وزوجي نبحث عن مكان يجمع بين جمال الطبيعة وروح المدينة.
أردنا أن نمضي هذا الشهر، الذي من المفترض أن يبقى حيّاُ في ذاكرتنا، في مكان ساحر مليء بأجواء رومانسية من جهة، وبأماكن تاريخية وأثرية وترفيهية من جهة أخرى. فكانت باريس هي الوجهة...


باريس بمرآة «السين»: وجه نرجس المتجدّد

عجيبةٌ هي هذه المدينة. ساحرة كسحر ابتسامة الموناليزا. تلك اللوحة المختبئة في إحدى زوايا متحف اللوفر العظيم.
مع فارق أنّ تلك اللوحة أصابتني بشيء من خيبة الأمل لضآلة حجمها، وأنا التي كنت اعتقد أنها تصل من الحائط إلى الحائط.
بينما باريس أذهلتني بكبر مساحتها وطول شوارعها وعرض جاداتها وكثرة مفارقها وحاراتها. هذه المدينة التي فاضت أقلام الشعراء والكتاب والباحثين في وصفها هي حقاً مُذهلة.

اخترت أولاً أن أتعرّف إليها دفعة واحدة. لذا ركبت نهرها الشهير السين وتنزّهت على متن سفينته الأشهر Bateau Mouche وأخذت أتأمّل المعالم الأثرية التي تصطفّ مقابل بعضها باستقامة واتزان كصفَّي عسكر على جانبي ساحة معركة.

تتباهى كلّ عمارة من تلك العمارات التي تمتدّ على طول نهر السين بالتاريخ الذي تختزنه في حجارتها. وبالتراث الذي تكتنزه في ذاكرتها. وبالصمود الذي لم تهزّه الأزمنة.
هكذا بدت لي باريس. أراقبها وأنا تحتها، فأراها عظيمة. تتوهّج مع الأيام. كنرجس متجدد، تنتصب فوق النهر.
تتأمّل جمالها عبر مياهها. فخورة بنفسها تتأمّل وجهها المرسوم على صفحات السين.
وأنا أتأملها من تحت. فأرى العمارات شاهقة بروعة بنائها لا بطول ناطحاتها. المتاحف تتجاور والكنائس.

القصور القديمة تتقابل والفنادق الجميلة. تاريخ إنساني هائل يتجلّي في مقدرة عمرانية استثنائية.
عمارات متلاصقة عريضة، تُغطيها سماء أعرض. السماء بها حمرة الغروب. والأشجار تهزّها النسائم. فترتعد أوراق الليلك. وتتماوج مياه النهر. فتبدو باريس لوحة رائعة امتزج فيها بهاء الطبيعة بحضارة الإنسان.


باريس التي لا تُشبه نفسها


برج أيفل: متعة تأمّل المدينة من فوق

كثُر الحديث عن هذا البرج. وإنما الصعود إليه ورؤية باريس المتلألئة أنواراً في الليل من أعلى نقطة في برج أيفل الذي ظلّ منذ تاريخ تشييده عام 1889، بمناسبة المعرض الكوني الأول، لغاية ثلاثينات القرن الماضي أطول برج في العالم، يمنحك شعوراً مختلفاً.
فبعدما تأملت وجه باريس نهاراً من على ظهر السفينة، أردت أن أتعرّف إلى باريس من أعلى مكانٍ فيها.

استمرّ انتظارنا أكثر من ثلاث ساعات. ورغم هول الانتظار، إلاّ أنّ شغف المغامرة جعلني مستعدّة لأن أتحمّل الوقوف في الصفّ الذي يفوق القطارات السريعة طولاً. سقط الليل والمساحات الخضراء التي كنت أسلّى نفسي بها طوال وقت الانتظار اتشحّت بالسواد.
حديقة «شان دو مارس» الواقعة تحت البرج اختفت. ضاعت في الظلام وكأنّ الأرض ابتلعتها. جاء دورنا.

قطعنا تذكرة الTop التي تخولني الصعود إلى أعلى نقطة في البرج. دخلنا المصعد الكهربائي ووصلنا إلى سطح البرج الأعلى.
هناك تعرّفت إلى وجه آخر لباريس. وجه مختلف. فبدت لي باريس ليلاً وكأنها مدينة أخرى.

رؤيتها من الأعلى جعلتني أراها من زاوية مغايرة. مشاهدتها من فوق لا تعطيك انطباعاً عن تلك العظمة التاريخية التي استشعرتها وأنا على متن السفينة.
ولا تُصوّر لك حقيقة تلك المدينة الكبيرة، الصارمة، الجامعة لكلّ أنواع الحضارة والتاريخ. بل إنها تُكرّس لك تلك الكنية المعروفة عنها: «مدينة الأنوار». ظلمة الليل الدامس غرقت في بحر الأنوار المنبثقة من كلّ مكان. المدينة تغدو أشبه بأنثى ترقص على إيقاع الضوء الذي يعلو ويخفت ألف مرّة في الثانية.


الشانزيليزيه حيث الأناقة والترف


في المترو كنت أسترق النظر إلى المناطق المختلفة في هذه المدينة. أراها بسرعة خاطفة.
الناس فيها مسرعون أيضاً كما القطار الذي أركبه. خطواتهم مُستعجلة. فالمدينة كبيرة والعمل فيها كثير. أمّا الزائر فهو الوحيد الذي يتمشّى ببطء كي لا يفوته أي تفصيل من تلك الحياة الباريسية. استوقفني عدد المتشرّدين في الشوارع ومحطات القطارات.

وأخذت أفكّر بهم أكثر عندما وصلت إلى Champs Elysee. في هذه المنطقة الجميلة تتوزّع المطاعم الفاخرة ومقاهي الرصيف ومحلاّت العطور الفرنسية الشهيرة ودور الأزياء الباريسية الراقية. هنا استشعرت كمّ التناقضات في هذه المدينة الكبيرة.
كان علينا أنا وزوجي أن نقطع مسافة كبيرة حتى نصل إلى قوس النصر الشهير في هذه المنطقة. في البدء لم نستسغ فكرة أن نمشي ما يزيد عن ساعة سيراً على الأقدام كي نصل إلى ذاك النصب الشهير.

إلاّ أنّ حشود الناس الآتية من كلّ بقاع الأرض جعلتنا نتحمّس لأن نخوض معهم متعة السير في هذه المنطقة الجميلة.
شيئاً فشيئاً بدأنا ننسى أرجلنا وصرنا نشعر بأننا نطير حقاً وسط حقل من الجمال الطبيعي.

الأشجار تتعانق على جانبي الطريق الضيق المؤدي إلى قوس النصر. الورود الملونة هنا وهناك ونسائم الهواء الباردة وحفيف الأشجار المتعانقة حولّت سيرنا إلى مغامرة رومانسية جعلتنا نتمنى ألاّ نصل كي لا نخرج من متاهة ذاك العالم الطوباوي الذي ولجناه على طول طريق الشانزليه.
قوس النصر ظهر أمامنا فجأة. رؤية هذا النصب التاريخي الذي ارتبط، كما برج أيفل، بصورة العاصمة الفرنسية باريس جعلني أتذكّر أسباب تشييده.

فصرت أروي لزوجي كلّ ما أعرفه عن هذا القوس الذي أراده نابليون بونابرت رمزاً يُخلّد أمجاده وانتصارات جيوش الأمبراطورية الفرنسية آنذاك.

منظر قوس النصر متوسطاً تلك الشوارع الراقية والميادين الجميلة وحدائق «التويلري» الرائعة جعلني أشعر بأنني في أجمل مدن العالم.

أحببت أن أظلّ ساعات وساعات في جادة الشانزيليزيه التي تنطلق من ميدان الكونكورد وتنتهي في ميدان شارل ديغول عند قوس النصر، إلاّ أن ّعرض الليدو الموجود في شارع الشانزيليزيه نقسه يبدأ في الساعة الثامنة مساءً وكان عليّ ألاّ أتأخّر في الدخول لحضور الاستعراض الأشهر في فرنسا والعالم أيضاً.أماكن لا تُفوّت في باريس: الكونكورد، حديقة النبات، نوتردام، ولامادلين، والفاندوم...

لميدان الكونكورد موقع خاص في قلب العاصمة الفرنسية. لم يكن لديّ فكرة عن هذه المنطقة سوى أنّها المكان الذي تمّ فيه إعدام آخر ملوك فرنسا لويس السادس عشر بالمقصلة ومن بعده زوجته ماري أنطوانيت.
قصدت الميدان وإذا بي أجد نفسي أمام مسلّة طويلة ذكرتني بتلك المسلاّت الفرعونية التي كنت قد رأيتها في متحف اللوفر قبل يوم واحد.

سألت عن معنى هذا النصب الواقع في وسط الميدان، فعلمت أنّ هذه النصب العمودي هو فعلاً مسلّة فرعونية أهداها محمد علي من الأقصر لشارل العاشر عام 1829 إلاّ أنّها وصلت إلى فرنسا في عهد لوي فيليب عام 1833.

نافورتان جميلتان تُزينهما تماثيل حوريات تُميّز هذا الميدان الفسيح والذي يُعتبر أوسع شوارع باريس وأعرضها.
شرق ميدان الكونكورد توجد كنيسة لامادلين الشهيرة. بحكم اطلاعي على الثقافة الفرنسية، كنت أعلم الكثير عن كنيسة لامادلين.

ومن أبرز الأمور هي أنّ هذه الكنيسة الرائعة الهندسة شهدت مراسم مأتم الموسيقي العالمي فريديريك شوبان في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1849 الذي أُقيم على إيقاع النشيد المأخوذ من أول سوناتا كتبها ووزعت للأوركسترا كفاتحة للقدّاس الجنائزي.
في هذه الكنيسة تُدهشك الرسوم والنقوش الزجاجية الملونة التي تعكس روعة الفنّ والعمارة.
أمّا كاترائية «نوتردام» فيعرفها جميعنا من خلال رائعة فيكتور هوغو Notre Dame de Paris أو «أحدب نوتردام»، كما اتُفق على تسميتها باللغة العربية.
هذا المبنى الضخم الواقع في الجانب الشرقي من «جزيرة المدينة» أو «إيل دو لا سيتيه» على نهر السين يأخذك بغرابة عمارته وطول أبراجه وضخامة أبوابه ومساحاته الخضراء المُحيطة به والمقاهي التي تحمل أسماء أبطال رواية هوغو مثل «أزميرالدا» و»كازيمودو» إلى عوالم تاريخية بل خيالية لا تُشبه عالم هذا الزمان.

أمّا خلفية الكاتدرائية فهي الأجمل من الناحية الهندسية لكونها ذات نمط معماري خاص يعود إلى القرون الوسطى حيث أتت تركيبته أقرب إلى شكل أقواس رائعة الهندسة.
ولا يُمكن زيارة باريس دون أن تقصد أهمّ حدائقها المعروفة باسم «حديقة النبات» أو Jardin des plantes. وهذه الحديقة التي أسّسها لويس الثالث عشر افتُتحت أمام الجمهور عام 1650.
وأبرز ما يُميزّها عن سائر الحدائق أنّها تضمّ شتّى أنواع النباتات في العالم وتضمّ قسمين أحدهما لنباتات المناطق الحارّة وآخر للآسيوية.

وتضمّ أيضاً حديقة حيوانات تحتوي على عدد كبير من الطيور الغريبة والمتنوعة وعلى الزواحف والحشرات. وهناك جناح خاص تُعرض فيه هياكل بعض الحيوانات المنقرضة كالديناصور.
قصر العدل هو أيضاً من الأماكن التي يُنصح بزيارتها في باريس. يواجه في موقعه بلدية باريس ويضمّ كنيسة «لا سانت شابيل» التي يعود بناؤها إلى القرن الثالث عشر وتُعدّ من أجمل المعالم الدينية في باريس.

في شوارع الفاندوم تعود إلى عالم الواقع حيث الرفاهة والموضة والثراء. هذا الميدان الراقي يعجّ بالمقاهي والمطاعم الفخمة والمحلات التجارية ذات الماركات الباهظة الثمن. ومن بين فنادقها «الريتز» الذي تناولت فيه الأميرة ديانا عشاءها الآخير قبل تعرضها لحادث السير ودودي الفايد.

اتخذت الفاندوم تسميتها من مسلّة «الفاندوم» التي نُصبت في وسطها في العام 1708، وهذه المسلّة المغلّفة بالبرونز ترتفع 44 متراً.


«مونمارتر»... أغنية رومانسية بلحن فرنسي


قبل هذه الرحلة الجميلة لم أكن قد زرت باريس يوماً. إنما كنت قد سافرت إلى مونمارتر أكثر من مرّة. نعم، فأنا لم أقصدها بطائرة أو باخرة ولكني سافرت إليها بمخيّلتي في كلّ مرّة استمعت فيها إلى شارل أزنافور يُغنّي لها «مونمارتر في ذلك الوقت، كانت تُعلّق أزهار ليلكها تحت شبابيكنا» في رائعته La Boheme.

كانت صورة هذه المنطقة مُرتبطة في مخيلتي بالأزهار الفرنسية الليلكية. وبالفنانين الموزعين في طرقها القديمة. من ساحة الفاندوم قصدتها وأنا أعرف أنني سوف أحبّها بقدر ما أحببت أغنيتها.
إلاّ أنني لم أكن أعرف أنني سأُفتتن بها إلى حدّ العشق لها. أحببت مطاعمها وشوارعها وأماكنها الأثرية.

الرسامون المغمورون موزعون على جوانب شوارعها الضيقة. ونظراً إلى ارتفاع مونمارتر، تمكنت من أن أشاهد أجمل غروب شمس في حياتي. من على مرتفع أقدم كنائس فرنسا «القلب المقدّس» أو Sacre-Coeur الذي صعدت إليه بمصعد كهربائي يُشبه إلى حدّ ما «التلفريك»، استطعت أن ألقي نظرة بانورامية على مدينة باريس كاملة وأن أستمتع برؤية قرص الشمس الأحمر وهو يذوب خلف مدينة تحمل ألف وجه ووجه.


«غاليري لافاييت»: مُصغّر عن الحياة الباريسية


لا أدري لماذا خُيّل إلي لدى وصولي إلى هذا المحلّ التجاري الفرنسي الذائع الصيت أنني موجودة حقاً في باريس.
هذا المكان التجاري الذي يضمّ أشهر ماركات العالم وأهمّ محلاّت العطور والحلويات وأغلاها ثمناً، لا يُشبه المتاجر الأخرى في بقية دول العالم.

إنّه مجموعة متاجر ضخمة متقابلة، إنما من داخلها تأخذك هندستها الملكية القريبة من هندسة دار الأوبرا الفرنسية. فالتاريخ في هذه المدينة موجود حتى في متاجرها ومحلاتها التجارية.  فترى أن غاليري La Fayette- Printemps هو أيضاً مكان يقدّم لك متعة التسوّق وسط أجواء لا تخلو من الفنّ والثقافة والجمال المعماري.

في ديزني لاند: طفلة تائهة في بلاد العجائب

بعد يومين متتاليين في متحف اللوفر وفي قصر فرساي حيث استعدت ذكرياتي مع التاريخ الفرنسي الذي درسته تفصيلياَ في مادة «الحضارة» على مدى سنتين بحكم تخصصي في الأدب الفرنسي، اخترت أن أمضي يوماً ترفيهياً خارج حدود مدينة باريس وتحديداً في «ديزني لاند» الشهيرة.

انطلقنا أنا وزوجي وفي نيّتنا إخراج ذاك الطفل المُختبئ في داخلنا. أخذنا قطار RER واتجهنا نحو ديزني التي طالما زرتها بأحلامي وأنا طفلة.
وما إن وصلنا حتى وجدت نفسي فجأة أمام عالم افتراضي. عالم خيالي. عالم جعلني أبدو صغيرة شكلاً وسنّاً.

ابتسامة غريبة ارتسمت على وجهي ولم تغادره حتى بعدما غادرت المكان. أتأمل حدائق ديزني بعينين واسعتين من الدهشة.
إنها دهشة طفل في بلاد العجائب. في هذا المكان المدهش استعدت طفولتي التائهة منّي. الطفولة التي سرقها منّي النضج والعمل وإيقاع الحياة المُعقدة استعدتها. استعدتها وسعدت بها.

فأطلقت العنان للطفل الذي في داخلي وسمحت له بأن يفعل ما يحلو له دون خوف أو تردّد. فأنا التي أخاف من الألعاب السريعة والخطيرة، قررت أن أجرّب أحدث الألعاب في عالم ديزني لاند.
فركبت في لعبة مجنونة اسمها «روك أند رول» وشعارها يُفسّر ماهيتها: «أسرع من إيقاعات الروك أند رول». ثمّ صعدت في لعبة أخرى تُدعى «هوليوود تاور» وهي عبارة عن مصعد يعلو ويهبط بقوّة وسرعة «تفوق الجاذبية»، كما كُتب على باحتها الخارجية.

وفي المدينة المقابلة دخلنا «بيت الأشباح» حيث تُذهل لما تراه من فنّ موجود داخل ذاك القصر المهجور.

وزرت أيضاً قصر «الأميرة النائمة» الزهري الذي يُعدّ علامة «ديزني لاند» الأشهر. وفي رحلة رائعة في قطار «عالم هوليوود» تعرّفنا على كيفية صنع المشهد في الأفلام الهوليوودية الشهيرة ورأينا بعض المجسمات التي ظهرت في أشهر أفلام هوليوود مثل «بيرل هاربر» و» 101 كلب مُرقّط» و»ذا ماسك أوف زورو» و»إدوارد سيزرز هاند» وغيرها...


وفي استوديوهات والت ديزني تعرفنا على تاريخ هذا العالم الطفولي الجميل الذي بدأ مع شخصيتي ميكي ماوس وميني ماوس التي صادفتها تتنزّه في حدائق ديزني ليلتقط الصغار معها صوراً جميلة لا تُنسى.
يوم كامل أمضيته في حدائق وقُرى ديزني لاند الفرنسية. يوم واحد جعلني فخورة باختياري لهذه المدينة التي لم أجد فيها الرومانسية والثقافة والتاريخ والحضارة والجمال فحسب، بل وجدت فيها الطفولة التي يُمكن للإنسان أن يدفع ثروة مقابل استرداد يوم واحد منها.


بروكسيل: مدينة برائحة الورود والشوكولا

على غرار مارسيل بروست في الفصل الشهير من روايته الضخمة «البحث عن الزمن الضائع» الذي استحضر زمناً ضائعاً بعدما ذاق طعم الكعك بالشاي، صرت أستعيد مدينة كاملة كلّما شممت روائح الكاكاو والشوكولا.
في هذه المدينة التي ارتأيت زيارتها بالصدفة لقربها الجغرافي من باريس، لم أكن أدرك أن صورتها ستنطبع في مخيلتي دوماً كلّما فاحت من حولي روائح القهوة والكاكاو والشوكولا.

مع أنّ المدن الأوروبية تتشابه في عماراتها وهندستها، يبقى لكل مدينة روحها المختلفة عن الأخرى. ففي بروكسيل، المدينة الأوروبية الصغيرة، مرافق سياحية عديدة تدرّ على بلجيكا أموالاً طائلة تُساهم في تعزيز اقتصادها الوطني.
انطلقنا في قطار Thalyss السريع في السادسة صباحاً. ووصلنا من «محطة الشمال» في باريس إلى محطة بروكسيل الرئيسية عند السابعة والنصف صباحاً.
تناولنا الفطور في أحد مطاعم «شومان»، منطقة بلجيكية معروفة في بروكسيل، وقصدنا الحديقة الشهيرة فيها.

ورغم الطقس الصباحي البارد، كانت الشمس تتوسّط السماء وتُغطّي خيوطها الذهبية شوارع المدينة كلّها.
الطقس الجميل ساعدنا في الإستمتاع بالتنزّه داخل الحديقة التاريخية لأحد أهمّ القادة العسكريين في تاريخ بلجيكا والذي أهدى المنطقة اسمه «شومان».

من هناك اتجهنا بالمترو صوب منطقة «غراند بلاس»، المكان الأشهر في بروكسيل. الهدوء الذي سيطر على محطتنا الأولى في بروكسيل تبدّد منذ لحظة وصولنا إلى الساحة. فالسيّاح كُثر. وثرثرات الناس بلغات مألوفة وأخرى غريبة تُحيط بك من كلّ حدبٍ وصوب.
الكلّ يذهب في اتجاه واحد. لحقنا بقافلة السيّاح الذين يغلب عليهم الآسيويون من ذوي البشرة الصفراء، وإذا بي أجد نفسي فجأة ومن دون أي مقدّمات أمام سجادة من الورود تتوسطها نافورة مياه وتُحيطها أبنية ضخمة تختزن عقوداً بل قروناً من تاريخ البشرية.

من وسط باحة «غراند بلاس» سلكنا أحد الشوارع الضيقة. شوارع تتفرّع منها شوارع أخرى. محال تجارية تبيع الشوكولا وأخرى التحف وتذكارات البلد. شوارع قديمة من حجر مُقطّع قطعاً صغيرة.
متاجر ومطاعم متراصّة. أجواء تأخذنا إلى أوروبا القرن الماضي. ألحق بالسيّاح وأتأمل واجهات المحلاّت. «الصبيّ الصغير» بطل هذه المنطقة. مصنوع من حديد ومن كروم ومن خشب ليكون تذكاراً يُمثّل بروكسيل.
وهو أيضاً مصنوع من الشوكولا ويُباع بالقطعة في أحد أغلى محلاّت الشوكولا في بروكسيل: «كورنيه» و»ليونيل».

صورة الصبيّ ونافورته الشهيرة التي طالما رأيتها في الصور والأفلام لا تُفارق مخيلتي. أتقدّم بخطوات سريعة لأجد حشود الناس مجتمعة حول زاوية صغيرة في أعلاها نافورة مياه هي عبارة عن مجسّم صغير لصبي اشتهر حتى أصبح أهمّ الأماكن الأثرية في بلجيكا بل أوروبا.

صغر حجمه لم يصدمنا أنا وزوجي فقط، بل صدم كلّ الذين رأوه للمرّة الأولى. كانت صرخات التعجب تعلو بكلّ لغات العالم.
وكأنّ كاميرات العالم قد اتفقت على نصب فخ للسيّاح بتصوير Manneken Pis بحجم يفوق 7 مرّات حجمه الحقيقي.
وإنما عرفت من خلال وجودي هناك أنّ لهذه النافورة قصة تاريخية بروايات مختلفة أهمها أنّ هذا الصبي الصغير هو عبارة عن تمثال صنعه نحّات إيطالي عاش في بلجيكا متعكزاً على إحدى القصص التي سمعها من سكّان هذه المنطقة.

والرواية تقول إنّه في هذه الزاوية وُجد طفل عارٍ وغريب بعدما ضاع عن أهله أياماً عديدة إلى أن وجده والده يرتعد برداً وخوفاً في هذا المكان بالتحديد.
من هناك، سلكنا طريقاً ضيقة تتقابل فيها المطاعم التي تُقدّم أشهى أنواع الأسماك وثمار البحر.

الطريق لا تتسّع لأكثر من شخصين. طرقات ضيقة ومتتابعة أشبه بدهاليز. في مفترق آخر، بدت لي رائحة الشوكولا أقوى منها في أي مكان آخر. اتبعت الرائحة، كما في الأفلام الخيالية، وإذا بي أجد شارعاً تعجّ فيه محلات الشوكولا وفي آخره معمل خاص بتصنيع مسحوق الكاكاو وقطع الشوكولا البلجيكي شعرت بأنني داخل فيلم «شارلي ومصنع لبشوكولا».

من هذا الشارع تسوّقت الشوكولاته كما لم أفعل في حياتي ثمّ اتجهت مسرعة لأخذ المترو وزيارة النصب السياحي الآخر في بروكسيل «أتوميوم».


«أتوميوم» و«ميني يوروب»... عالمان بروح واحدة


معروف أنّ معظم نكات الشعب الفرنسي تُطلق على الشعب البلجيكي. ومن تلك النكات أنّ بلجيكا أرادت أن تُقلّد برج إيفل فأخطأت بالمثلّت وجعلته دائرة، فكان لديها «أتوميوم» بدلاً من برج إيفل. إلاّ أنه في الواقع بُني هذا النصب عام 1958 للاحتفال بمعرض بروكسيل.

بُني من الفولاذ والإسمنت وتجسّد من خلال تسع دوائر تُشبه البلورات وتترابط بمصاعد طويلة تمنحك إحساساً وأنت داخلها بأنك في جولة فضائية.

خلف «أتوميوم» تمتد مساحات خضراء شاسعة أشبه بغابة تضمّ نهراً كبيراً وأشجاراً عالية من مختلف الأنواع. وفي شمال الأتوميوم ثمّة مكان الجذب السياحي الآخر في بروكسيل وهو «المدن الأوربية المصغرّة» المعروفة باسم Mini Europe.
حديقة «أوروبا الصغيرة» تجمع أهم معالم أوروبا في مكان واحد. فيها 80 مدينة أوروبية و350 مجسماً.

قطعنا بطاقة دخول لشخصين وإذا بنا نجد أنفسنا فجأة وسط عالم من الخيال والجمال والإبداع. الحدائق الصغيرة ومحطات القطارات والسفن والتلفريك وشركات الطيران تتوزّع هنا وهناك.
برج إيفل يُقابل كنيسة نوتردام وساعة بيغ بين اللندنية تتجاور وطواحين أمستردام. برج بيزا المائل تجده قرب «بلازا دي توروس» الإسبانية.

خرجت من هذه الحديقة الإستثنائية في روعتها وهدوئها وجمالها لأعود عند التاسعة مساءً إلى باريس حيث أمضيت ليلتي الأخيرة في «مونبارناس»، وعدت في الليلة التالية إلى بيروت وأنا أحمل معي أسبوعين من الذكريات التي تكوّنت وسط عاصمتين تائهتين بين الحضارة والحاضر...

المجلة الالكترونية

العدد 1080  |  كانون الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1080