اسطنبول: مدينة عصرية جميلة...
عندما دعتني إدارة فندق بارك حياة ماشكا بالاس لزيارة اسطنبول، لم أفكر في اسطنبول كتب التاريخ، بل في مدينة تستعرض أبّهتها وجمالها وعصريتها المتماهية مع التاريخ، في دراما اجتاحت شاشاتنا العربية بمشاهد طبيعية خلاّبة أثارت فيّ شهية السفر إليها والتجوال في الأماكن التي دارت فيها أحداثها، إذ ليست رومانسية أبطالها الدرامية ما حفّزني للسفر إليها، بل فضولي لأعرف ما إذا كان ما أراه على الشاشة حقيقة وليس جزءًا صغيرًا من مدينة رحبة يبلغ عدد سكانها حوالى 13 مليون نسمة.
إنها مفارقة غريبة. استطاع صندوق الفرجة العصري أن يبدّل صور ذاكرتي ويشحنها بمشاهد اسطنبول العصرية.
إذ لم يخطر في بالي يومًا أن أبدّل صورة هذه المدينة في ذاكرتي التي اعتادت تصويرها مدينة الفرمانات الصادرة عن الباب العالي، حيث سلاطين الزمان العثماني يديرون العالم من شرقه إلى غربه من وراء أسوار قصورهم.
وصلت إلى مطار اسطنبول الدولي واخترقت أولى بوابات الباب العالي وركبت الحافلة التي دارت بي في شوارع اسطنبول وكأنها في سباق مع بزوغ الصباح الذي لم تستطع خيوط الشمس اختراق سحبه الشتوية.
بل تركت مهمة ايقاظ المدينة للأنوار الكهربائية التي يخفت وهجها مع بدء النهار.
رغم أنها كانت الخامسة صباحًا فإن الحركة كانت ناشطة وكأن هناك علاقة جدلية بين ليل اسطنبول ونهارها فكلاهما يتناوب على تسلم زمام أمر المدينة، الليل يتعب وكذلك النهار والمدينة وسكانها لا يتعبون.
وصلت إلى فندق بارك حياة اسطنبول ماشكا بالاس الواقع في منطقة شيشلي والقريب من وسط المدينة التجاري حيث كان موظف الاستقبال في انتظاري، ورحب بي باللغة الإنكليزية بلكنة تركية، وأعطاني مفاتيح غرفتي ليتركني أكتشف مقدّمة العالم التركي وحدي.
نزلت في جناح الـ VIP الذي دمج في هندسته الداخلية النمط التركي بالأسلوب العصري.
تعرّفت إلى زملاء الرحلة وتوجهت بنا الحافلة إلى مركز إيستينيه بارك التجاري، وكانت برفقتنا ديفني مديرة العلاقات والتسويق في الفندق، وهاندي مديرة العلاقات العامة.
كانت السيدتان تتقنان الإنكليزية مما سهل التواصل بيننا جميعًا، أما كوناي مرشدنا السياحي العامل في شركة هيلينا للسياحة فقد كان يتكلم العربية بطلاقة.
لفتني في الأتراك الثلاثة روحهم المرحة والمضيافة، وفضول هاندي لتعلّم اللغة العربية فتبادلنا أطراف الحديث وتعرّفنا من نافذة الحافلة إلى بعض معالم المدينة التي تذكر بأمجاد الإمبراطورية إلى أن وصلنا إلى مركز إيستينييه الذي افتتح عام 2007 ليكون أوّل مركز تجاري في اسطنبول يضمّ متاجر لدور الأزياء العالمية مثل غوتشي ولويس فيتون ولارا بيانا وغيرها من الدور العريقة.
كما كل المراكز التجارية الكبرى في العالم، يضم إيستينيه بوتيكات ومقاهي ومطاعم.
بعدما تناولنا غداءنا في أحد المطاعم، توزع أصدقاء الرحلة ليمارس كل واحد منهم هواية التسوّق على الهوى التركي الإسطنبولي، أما أنا فجلست في أحد المقاهي الخارجية لأتناول القهوة التركية، فكما كل الأماكن المغلقة في تركيا التدخين ممنوع، وأثناء جلوسي لفتني مشهد السيارات يقودها سائقون لا يقلّون أناقة عمن يعملون لديهم، وشعرت بأنني أمام مشهد مباشر لما أراه في الدراما التركية التي بدا لي حتى تلك اللحظة أن كل ما يعرض فيها حقيقي وليس جزءًا أو متخيّلاً دراميًا تركيًا.
بعد مغامرة التسّوق التي استمرت أكثر من خمس ساعات، عدنا إلى بارك حياة للإستراحة والاستعداد للعشاء الذي سبقته جولة في أجنحة الفندق والتعرّف إلى الخدمات المتوافرة فيه.
يضم الفندق تسعين غرفة وجناحًا ومنتجعًا صحيًا وصالة رياضية تبقى في تصرّف نزلاء الفندق 24 ساعة وبعض البوتيكات لأهم دور الأزياء العالمية.
إضافة إلى مطعم ستيك هاوس The prime الذي تناولنا عشاءنا فيه.
اليوم الثاني موعد مع اسطنبول الشعبية
بدأ صباحي الثاني في اسطنبول بفطور تركي لذيذ وطبعًا توّج بالقهوة التركية، ثم دارت بنا الحافلة نحو الغراند بازار، أو السوق الكبير الذي سمعت الكثير عنه. كان صباح اسطنبول مشغولاً بزحمة سير، سببها أن السبت هو أول أيام العطلة الأسبوعية والكل ينتهزه إما للتسوّق أو التنزه.
ركنت الحافلة عند إحدى بوابات البازار الإحدى عشرة حيث يطغى مشهد "الجامع الجديد" على البازار، عند مدخل إحدى البوابات كانت رائحة الكستناء المشوية تفوح من العربات الجوّالة مما أثار فينا جميعًا شهية التهامها.
لفتني في عربة الكستناء وبائعها طريقة العرض والنظافة المميزة ولائحة الأسعار المحددة بحيث لا يمكن المساومة.
وعند مدخل السوق تتجاور الحوانيت بأناقة شعبية فريدة من نوعها، فالسجاد البخاري والعجمي والتركمستاني معلّق يداعبه الهواء الشتوي فكأن بين الطرفين تحدي البرد والدفء، "من" سيتغلب على "من" البرد أم الدفء؟!
بدأت مغامرة الغراند بازار مع أولى خطواتنا: السوق مسقوف بأسلوب فريد يعود إلى قرون عدة، أسقفه متكأة على أعمدة تتوجها القناطر المعقودة وبعضها يعود إلى الحقبة البيزنطية وبعضها الآخر إلى الحقبة العثمانية الإسلامية، أما أرضيته فمنها ما هو مرصوف بالغرانيت ومنها ما هو مرصوف بالحجارة.
في السوق الكل كان ينادي على بضاعته فدخلنا في متاهة من الأصوات والألوان والتاريخ.
الطريف أن زميلتنا كلير الإنكليزية كانت نجمة السوق، فمن باب الطرفة كان بعض الباعة ينادونها ساندريللا ويتحدثون معها بلغة إنكليزية متعثرة وطريفة كانت تضحكنا، ومنهم من كان يناديها شاكيرا، ولكن ما لم تفهمه كلير مناداتها بأنجلينا جولي رغم أنه لايوجد أي شبه بينهما فهي شقراء جدًا.
في السوق طبّقنا الدرس الذي لقّننا إياه كوناي، عندما قال لنا "المساومة سيدة لعبة التسوّق في الغراند بازار، وتذكروا دائمًا أن السعر المعروض يمكنكم أن تحسموا منه 50 في المئة، ولكن لا تبادروا إلى الحسم بل اتركوا البائع يعطيكم الحسم ثم اعرضوا عليه الرقم المناسب".
وهكذا كان. اللافت في هذا السوق المتاهة، النظافة الطاغية رغم كثرة الناس الموجودين فيه، والتزام الكل قانون عدم التدخين، والسبب أن السوق مغلق وفي الوقت نفسه فيه ازدحام كبير لذا منع التدخين فيه.
أخذنا استراحة في أحد المقاهي الموجودة داخل السوق وتناولنا الشاي التركي، فاختار كل واحد منا نوعًا فهناك شاي التفاح الذي تشتهر به تركيا، وشاي القرفة وشاي الياسمين.
بعد جلسة الشاي التركية، خرجنا من إحدى البوابات لنكون في السوق المفتوح، وتوجّهنا إلى سوق الذهب الذي تدخله بعد أن يفتشك شرطي بلباقة، مما يشعرك بالأمان.
خرجنا من سوق الذهب وبريقه الجامع بين التاريخ والمجوهرات العصرية، متوجهين نحو مطعم حميد الشعبي والمشرف على البوسفور لتناول الغداء. يتألف المطعم من عدة طبقات، ورغم أنه شعبي يمكن القول إنه أقرب إلى مطعم خمس نجوم من حيث النظافة والاستقبال.
أما الأطباق التي انهالت علينا فكانت تركية بامتياز، وسيد أطباق المازة الباذنجان بمكوّنات وأساليب مختلفة.
بعد الغداء توجهنا إلى السوق المصري أو سوق البهارات، دخلنا أحد الحوانيت الذي يضم باعة عدة تفننوا في إغرائنا لشراء البهارت أو النوغا التركية والمكسّرات مثل البندق.
الطريف أن تذوق المنتجات متاح وإن لم تشترِ إذ يمكنك تناول ما تشتهي من دون أن تدفع، كما أن طريقة الترحيب بالمشتري تعكس روح الكرم لدى سكان اسطنبول، فسواء اشتريت أو لم تشترِ فإن كوب الشاي تقليد لا يتخلى عنه أصحاب الدكاكين، هذا ما أكدته لي هاندي، فقد ظننت لأننا صحافيون فإن صاحب الدكان يقدّم لنا الشاي.
ها أني أستل كوب شاي من الصينية التي كنت أراها على الشاشة يؤرجحها بائع الشاي بقبضتها المعدنية.
عدنا إلى الفندق لأخذ قسط من الراحة والاستعداد لتناول العشاء في مطعم رينا Reina المشرف على البوسفور مباشرة، وهو من أشهر المطاعم في اسطنبول ويقصده مشاهير الفن التركي.
انتهت أمسيتنا الثانية في اسطنبول، ولكن ليلها لم ينتهِ فرغم أننا عدنا عند الثانية صباحًا كانت شوارع المدينة تضج بالناس والسيارات، إنه يوم السبت والكل يخرج للسهر حتى ساعات الفجر الأولى.
اليوم الثالث موعد مع البوسفور
كان يومي الأخير في اسطنبول مائياً بامتياز رغم أنه انتهى برّياً. فعند الحادية عشرة قبل الظهر ركبنا عبارة أبحرت بنا في مضيق البوسفور الذي يفصل اسطنبول الأوروبية عن اسطنبول الآسيوية.
وكلا الضفتين تزركش المضيق بأبنية تاريخية أنيقة اختلفت في نمطها المعماري، وقصور تستريح من دون أن تخشى أمواج بحري مرمرة والأسود.
العبّارة تخترق المضيق بهدوء ومياهه تتلون بحسب مزاج السماء التي اجتاحتها السحب الرمادية، فتارة تراها رمادية داكنة وأخرى بلورية. كانت أسراب طيور النورس تارة تسبح فيها وتارة أخرى تحلّق فوقها ولكنها لا تتخلى عنها.
كل شيء كان كما أراه على الشاشة: صيادون يرمون بصناراتهم في بطن المضيق، وطيور النورس الكسولة تقترب من سلالهم علها تحوز وجبتها من دون عناء الغوص في المياه.
أما القصور فكانت منتشرة بسخاء على ضفتي المضيق، وكلنا كنا نسأل كوناي متى نمر بالقرب من قصر نور ومهند، إلى أن ظهر لنا وكان صاحبه يقوم بترميمه، وأكد لنا كوناي أن ثمنه تضاعف ست مرات عن سعره الحقيقي بعدما نال شهرته في هذا المسلسل... وعبور البوسفور لا يمر هكذا، فهناك اسطورة في اسطنبول تقول إذا رأيت دلفينًا أثناء الإبحار فإن كل أمانيك تتحقق، للأسف رغم تحديقنا إلى الماء لم يرَ أحدنا الدلفين حامل الحظ السعيد.
رست العبّارة على الضفة وعبرنا الجسر الشهير الذي يصل شطري اسطنبول بعضهما ببعض متوجهين نحو تلة العرائس. أما حكاية هذه التلة فهي أنه في الزمان القديم كان الشبان العزّاب يأتون إلى هذه التلة ويختارون عرائسهم، فكان الشاب يتأنق بأجمل ما لديه وكذلك البنت، وعندما يعجب أحدهما بالآخر كان الشاب يكتب إعجابه على المنديل ويضعه تحت شجرة ثم تأتي صاحبة المنديل وتقرأ طلبه للزواج، ثم ترمي له بمنديلها بأنها موافقة.
وبسبب هذا التقليد سميت التلة تلة العرائس. وصلنا إلى التلة المشرفة على اسطنبول بقسميها وقد تحوّلت متنزّهًا عامًا يأتي معظم سكان اسطنبول لتمضية نهار العطلة فيه. أما عرسان العصر فيأتون إلى هذه التلة للإحتفال والتقاط الصور نظرًا إلى رمزيتها.
بعد تلة العرائس توجهنا إلى مطعم الجزيرة العائم وسط المضيق وكانت العبارة وسيلة الوصول إليه. الغداء كانت بحريًا بامتياز.
انتهت الرحلة المائية لنودع اسطنبول برًا وتحديد في شارع تقسيم المشهور، حيث أمواج البشر تطوف فيه لأنه مخصص للمشاة. وهنا تتجاور المحلات التجارية والبوتيكات والمطاعم، وكذلك عربات الكستناء المشوية تنتشر في كل مكان. ويعتبر التسوّق في هذا الشارع متعة لأنه مهما كانت ميزانيتك فإنك تجد طلبك.
تركت اسطنبول مساء، وقد شعرت بغصة الفراق عن مدينة لا تشبه المدن التي زرتها. ما كنت أراه على الشاشة عشته واقعًا، فصينية الشاي ذات القبضة الفريدة التى تتأرجح بفناجينها نشلت منها الفنجان، والبائع الطريف المضياف تكلمت معه، والبوسفور الأزرق الرمادي اخترقته، والأسواق المسقوفة دللّتني بدفئها، والشوارع المرصوفة بالحجارة مشيت عليها.
كل شيء في هذه المدينة المنقسمة جغرافيًا والمتحدة روحيًا يسألك بصمت فريدة أن تعود إليها، فما اكتشفته منها كان جزءًا بسيطًا لعالم تركي فيه فوضى جميلة تحرّكها روح إنسان لم يتغرّب عن جسد مدينة اسمها اسطنبول.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024