تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

'بادن- بادن' بلدة ألمانية جميلة...

عندما دعاني جان بيار لرحلة ثانية إلى بادن- بادن، استحضرت كل الصور الجميلة التي خزنتها ذاكرتي عن هذه البلدة التي تتفيأ بظلال الغابة السوداء، وتتفجر الينابيع الدافئة من جوف أرضها الخصبة.
ووجدت نفسي أجلس إلى كمبيوتري وأنظر في الصور الواقعية التي دوّخت عدسة كاميراتي فعجزت عن طبع كل تفاصيلها. 
ورحت أطرح أسئلة تمتد من بيروت إلى بادن- بادن
هذه البلدة الوديعة التي بدت لي قبل سنتين كأنها قطعة من الفردوس سقطت سهوًا على الكرة الأرضية، واختارت ألمانيا بلاد عقل فلسفة القوّة في عصر الأنوار الأوروبي لتتحداه، كيف نجد تفسيرًا لجمالها الطبيعي المتناثر في أرجائها؟

بدأت الرحلة يوم الجمعة صباحًا وحلّقت من بيروت كانت تستقبل ربيعها، إلى بادن- بادن التي هي أيضًا تستقبل الربيع، وسألت نفسي كيف ستكون؟ فقد زرتها شتاء وكانت الطبيعة غير آبهة بالمطر واختارت ألوانًا خاصة بها عكست دفء الشتاء وليس برودته.
فماذا ستكون أطياف ألوانها في عز الربيع؟
أربع ساعات من التحليق في الفضاء الأزرق إلى أن أعلن ربان الطائرة أننا سنهبط في فرانكفورت.
شددت الحزام واستعديت لهبوط لبناني على أرض ألمانية، فالطائرة التي ركبتها كانت تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط.
اخترقت وزميلتي الرحلة مي ولوسي النفق المؤدي إلى نقطة ختم جوازات سفرنا.
أحيانًا لا أفهم لماذا يقال إن العالم أصبح قرية واحدة ولا نزال نحمل جوازات سفر تحدد هويتنا ولوننا، ونصطف خلف بعضنا كي نخترق حدود البلاد التي نتوق إلى لقائها.
عند البوابة كان جان بيار في انتظارنا فقد سبقنا إلى فرانكفورت بيوم واحد. تسلمنا أمتعتنا مسرعين نحو محطة القطار المتوجهة إلى ماينهاين لنركب في القطار التالي المتوجه إلى بادن- بادن. 
من حسنات السفر عبر القطار أنك تسرع الخطى إلى درجة الركض، فالوقت من ذهب وتأخرك يجعلك تفوته، وتجرّب معنى عبارة «فاتك القطار».
من نافذة القطار الكبيرة على عكس كوّة الطائرة الصغيرة، بدأت تتوالى على ناظري مشاهد ألمانيا الطبيعية التي تستعرض جمالها بفخر يتسابق مع سرعة القطار المنساب على السكة الحلزونية.
ثلاث ساعات ونصف الساعة تفصلني عن لقاء بادن- بادن. رغم أن لوسي ومي كانتا متحمستين للتعرّف إليها كانت حماستي أكبر، فلقاء من نعرف يجعلنا نتمنى أن نكون ضمن منظومة سرعة الضوء لتسقط من حساباتنا المساحات الهندسية والمسافات الزمنية، ونصل إليه.

تباطأت عجلات القطار وأعلن الوصول إلى بادن- بادن، ترجلنا بسرعة فاستقبلتنا نسائم البلدة الربيعية بصمت جميل، لنعبر بوابة المحطة حيث ينتظرنا سائق فندق دورينت  Dorint Maison Messmer.
البلدة كما تركتها جميلة تتضمّخ بعطر الطبيعة على مدار الساعة، الألوان ربيعية نضرة فالطبيعة هنا لا تحار في ارتداء أثوابها المزركشة بتقنية عالية في أدق التفاصيل، والبيوت القرميدية مستريحة وسطها إلى حد التماهي.

عند مدخل الفندق القريب من وسط البلدة استقبلتنا سيمون غراسل المديرة التسويقية للفندق التي التقيتها قبل سنتين، «لم تتغيري» قلت لها، فأجابت» العيش في بادن- بادن هذا هو السر».
عرفتنا إلى مساعدها ماركوس كاهيل، وكعادتنا نحن اللبنانيين أينما وُجدنا، حاولنا استنباط جذوره لنخرج بنتيجة طريفة أن اسمه مرقس كحيل، رغم أنه ألماني من أصل أميركي.

سلمنا ماركوس مفاتيح غرفنا المشرفة على البلدة، لا فرق في أي طبقة ستنزل وفي أي جهة غرفتك، فجمال البلدة يحاصر الفندق من الجهات الأربع.

بعدما سلّمت على بادن- بادن على طريقتي، كان في انتظارنا وزملائي جلسة تدليك في سبا الفندق  the Dorint Royal Spa حيث دخلت في متاهة من الأحاسيس العطرية والأجواء الهادئة التي تمتاز بها بادن- بادن.
إنتهت أولى مراحل استقبال بادن- بادن، لننتقل إلى المرحلة الثانية حيث كنا على موعد على العشاء في مطعم le jardin de France باستضافة آنا- غروث بولوس المديرة التسويقية لمكتب بادن- بادن السياحي.

لم تتغير آنا التي تعرفت إليها قبل سنتين، الابتسامة نفسها وجهها وروحها الجميلان نفساهما، ولا تزال تهتم بأدق التفاصيل لتوفر لضيوفها كل وسائل الراحة. 
كان طابع المطعم فرنسيًا بامتياز بلمسة ألمانية، فمالكا المطعم زوجان فرنسيان قررا العيش في البلدة، الزوجة تدير المطعم والزوج شيف المطبخ الذي جعلنا نترك لشراهتنا الحرية في تذوق ألذ الأطباق وأطيبها، إلى أن أصابتنا التخمة، ولكن الذي شفع لنا أننا عدنا سيرًا على الأقدام إلى الفندق، يعني طبقنا المثل القائل «تعشى وتمشى».

رافقتنا آنا إلى كور هاوس المجاور للفندق. شيد هذا المعلم التاريخي بين عامي 1821 و1824 فريدريك فاينبرنير بقصد أن يكون نادياً اجتماعياً يلتقي فيه وجهاء البلدة، أي كما نطلق عليه في بلادنا العربية الديوان.

بني كورهاوس على النمط النيو كلاسيكي ويضم مسرحاً خارجياً وكازينو يتألف من أربع صالات صممت هندستها الداخلية بين عامي 1854 و1856 لتكون نموذجاً  لقصر فرساي الفرنسي. أمّا الأثاث فجاء على نمط النيو- باروك. وإضافة إلى الصالات الأربع يوجد مقهى.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079