'فيشي' VICHY شيء من المفقود...
لا تزال تراود ذاكرتي تلك العبارة المتذمّرة بشغف جميل التي قالتها صديقتي عن باريس: 'تلك الشوارع المتعبة بكثرة أرقامها والمتشابهة التي تصفحُ عنها المقاهي المترامية عند كل ناصية'.
كم هي جميلة باريس وبريئة بتفاصيلها غير المصطنعة. ولكن هل تعلمون أن عاصمة أخرى تحمل ملامحها بنسخة مصغّرة، عاصمة 'دولة فرنسا' السابقة فيشي (1944-1940) التي ترصّع نواتها الجغرافية؟
من باريس وإلى فيشي أسرار تَشفي وتُفشى ...
كم يروقني التلاعب بالكلمات لوصف سحر تلك الرحلة بالقطار إلى فيشي أو باريس الصغيرة. تأثري بشعر كبار الأدباء الفرنسيين لا يمكن إلاّ أن أعرّبه بأوصاف رنّانة يصدر منها لون الربيع الفرنسي صيفاً وبرودة نهر ألييه الذي يحضنها وترف البوربون ومذاق ينابيع فيشي ويانسون ونعناع الأقراص المحلاة (Pastilles) الشهيرة والراسكاس الريفي، وإن جُلب من مرفأ مرسيليا.
هنا فيشي، حيث تتضاءل المسافات وأمل مصادفة سائق أجرة باريسي ثرثار يحدّثك عن شراسة انتقال البشرية من عصر الثورة الصناعية إلى عصر الثورة التكنولوجية... ويفوّت عليك متعة التماهي مع متاهة التاريخ المنقطع عن نظام بيتان أو ما كان يعرف ب'نظام فيشي' حتماً.
بغض النظر عن تسريحتها 'أورلوبيرلو' وجواهرها، لا بد أن نسرد قصة نضارة بشرة ماركيزة سيفنييه، ماري دو رابوتان-شانتال.
ثلاث ساعات بالقطار هي مدّة الرحلة من محطة بيرسي الباريسية إلى فيشي التي يمكن اختصارها برحلة جوية. ولكن ركوب القطار له وقع خاص.
تتقلصّ المسافات في هذه الرحلة السياحية الصحّية إن صح التعبير بسرعة مع التقاط تلك الصور المموّهة من نوافذ القطار للمساحات الخضراء والمنازل الريفية ذات الأسقف القرميدية.
من يصل إلى فيشي فهو حتماً قدم للإستجمام الهادئ. وإن تعدّدت الإحتمالات، فمنتجع فيشي Les Célestins هو الأمثل لاختبار فضائل مياه فيشي الحرارية.
كلمة فضائل في فيشي تطلق على ثروتها المائية كما خصال العائلات التي سكنتها. لا بد أن تدرك ما كتبت عنه ماركيزة سيفنييه في رسالتها إلى ابنتها في الأول من حزيران/يونيو 1676: 'بدلاً من أن تجفّف البشرة وتخشّنها، هذه المياه تجعلها ناعمة وموحّدة' واصفة مزية مياه فيشي على الجلد.
وهنا برز سؤال منطقي : هل أيقونة أخرى غابرييل شانيل، التي صدح بصوتها في حانات فيشي وكانت وراء تلقيبها ب'كوكو' شربت أو استحمت بمياه فيشي؟ نعم، فأيقونة الموضة الباريسية كوكو شانيل كانت مغنية لفترة وجيزة قبل أن تطبع ذائقتنا الأنثوية، قبل أن تحترف الحياكة التي تعلّمتها على أيدي راهبات ميتم أوبازين وقبل أن تلازمها سيجارتها الأيقونة أيضاً.
من القرن السابع عشر حتى اليوم
منذ القرن السابع عشر، بشّرت رسائل ماركيزة سيفنييه أرملة ماريشال دو كامب بفضائل مياه فيشي على بشرتها وصحتها. وبعد 350 عاماً لاحقة، أدام
منتجع فيشي Les Célestins بفخر طقوس الجلسات الإجتماعية الصحية في 'مدينة الماء' مستقبلاً العالم بأسره لإعادة صياغة صحة في بيئة طبيعية وثقافة استثنائية.
نسبة احتوائها على الأملاح المعدنية المعتدلة يجعلها المياه المعدنية الأعلى شأناً في فيشي. وهي حالياً المصدر الوحيد الموضب داخل قنينة، تلك العبوة الزرقاء الشهيرة والمصدّرة إلى 40 دولة.
في قلب خضرة منتزهات نابليون الثالث، يقع المنتجع، المكان المثالي لتجديد البشرة وخلاياها. وقبل الدخول في تفاصيل العلاجات والفرص التي يمكن أن تحظى بها هنا لا بد من نظرة عن كثب حول المدينة.
قلب فرنسا الذي يخفق بالماء والأسماء... نابليون الثالث
يسهل الوصول إليها من باريس وليون ومرسيليا، مدينة فيشي مطبوعة في التاريخ كإحدى "مدن الماء" الكبيرة الذي تقدّمه بجودٍ وجودة إلى زوارها.كما يمكن اكتشاف الجمال الهندسي المصغّر حيث لن تجد تحفة ضخمة كقصر فرساي الخرافي بـ 2513 نافذة و352 مدخنة و65 سلّماً. لكن الأوبرا المهيبة بزخرفة الوجوه والورود و'ملائكة' واجهتها التي تضبط الضغط الجوي وسقفها المذهّب نوراً (بترف وتطرّف) تُعدّ تحفة من أسلوب الفن الحديث الفريد في فرنسا.
في الشتاء تكرّس خشبتها للمسرح والرقص والأمسيات الشعرية والعروض الحيّة. أما صيفاً، فهي تحيي الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا والباليه. هي ثاني أكبر دار أوبرا في فرنسا، وكانت عنواناً حتمياً بعد انتهاء موسم الأوبرا في باريس، لكن لحكومة فيشي عشية الحرب العالمية الثانية الأثر الدرامي على نشاطها.
فمنذ عام 1901 (تاريخ بناء الأوبرا)، كانت فيشي عاصمة الموسيقى، ومحطة صيفية رئيسية لكل فنان مرموق الموهبة. كما المساحات التي تحيط بها كانت تشكّل أكبر مشرب للقهوة في أوروبا حيث كان يقدّم 4000 كوب من القهوة يومياً.
ولتاريخه، ظلال هذه الجلسة الخضراء قد تنسيك قلق احتساب السعرات الحرارية التي تحتوي عليها الكعكة المحلاة التي تناولتها في محطة القطار في الطريق إلى فيشي أو سجالا فكريا عن المصمّم الذي سيخلف جون غاليانو ويمسك بدار Dior الفرنسية العريقة...
أكثر من 500 متجر لا يغلق أبوابه طوال الأسبوع. سينما وكل سبل ممارسة الرياضات المائية ومساحات الغولف وميدان الخيل، وهنا لا بد من الإشارة إلى 'مهرجان القفز وأسبوع الوثب الكبير' الذي يشكل إحدى المناسبات المميزة في الموسم السياحي ويجذب أكثر من 120 ألف متفرّج يستمتعون بالعروض الساحرة ليلاً.
لم يمرّ اسم نابليون الثالث مرور الكرام. فلهذا الإمبراطور أثر كبير بين الأرجاء.
في القرن التاسع عشر، كانت فيشي محطة درجَ على أن يتردد إليها مشاهير ذلك الزمن. إنما وصول نابليون الثالث اليها في الرابع من تموز/يوليو 1861 للخضوع لعلاجه الحراري الأول وإقامته فيها بين عامي 1861 و1866، هي التي أدت إلى التحول العميق الذي طرأ على تفاصيل المدينة: حصر مياه نهر ألييه والمتنزهات الإنكليزية استبدلت المستنقعات القديمة، وعلى امتداد الجادات والطرق توزّعت الشاليهات والمنازل من الطراز الإنكليزي المميّزة بزخرفة نوافذها، سكن الإمبراطور وأتباعه.
وقد انسحب ذلك على الترفيه: كازينو بتصميم 'إكليكتيك' العمارة التركيبية (مزيج من الفنون الجميلة) والذي دشّن عام 1865. بناه المهندس المعماري شارل بادجي الذي صمم الحمامات الحرارية للطبقة الثانية عام 1858.
وهناك أيضاً قاعة الإحتفالات باسم نابليون الثالث التي صمم أسقفها المزخرفة جول بوتي. كما حفز الإمبراطور إنشاء محطة قطار التي ضاعفت عدد سكان وزوار المدينة عشر مرات خلال خمسين عاماً.
أول وصوله إلى فيشي في الرابع من تموز/يوليو 1861، نزل نابليون الثالث في محطة 'سان جيرمان دي فوسيه'، على مسافة 10 كلم من محطته الحرارية. وبعودته في الحادي عشر من تموز/يوليو 1862 كانت محطة فيشي قد انجزت خصيصاً لقدوم الإمبراطور.
عرفت فيشي في ما مضى بمدينة الشاليهات إلى جانب ألقابها الأخرى (مدينة الفنادق سابقاً وإن انخفض العدد فيها من 250 إلى 30 فندقاً بعد الحرب العالمية الثانية)، ولا تزال بعض الشاليهات قائمة حتى اليوم بما فيها الشاليهات الإمبراطورية.
كما لا يزال متنزّه الألييه (13 هيكتاراً من الخضرة النادرة) الذي دشن صيف 1862 خلال علاج الإمبراطور الثاني في فيشي لتجميل المدينة. يحتفظ التاريخ في ذلك المتنزّه بمبنيين، أحدهما شاليه 'دي سوبليك' (1864) الذي اكتتب صرحاً تاريخياً عام 1990.
مقصد ذائعي الصيت هنا غنت كوكو شانيل أو 'آخر براكين Auvergne'
أن تقصد فيشي في ما مضى فهذا دليل على مركز إجتماعي مرموق. وكان لغزو الرومان لها "فضل" في اكتشاف ينابيعها الحرارية واستغلال فوائدها على البشرة بالإستحمام لا الشرب.
إنما الماركيزة الفرنسية التي أقامت في فيشي عامين والتي إلى جانب ما تعكسه رسائلها من أخلاق وفضائل ومناخات عصرها بعناية لا تحتمل الخطأ أو لطخة حبر لا تطمس، إلى جانب أناقة كتاباتها كان لها الأثر الكبير في ذياع صيت مياه فيشي الحرارية، فقد كانت الإمرأة الفرنسية الأيقونة في عصرها. وفي القرن السابع عشر بدأت الأستقراطية تؤمّ قلب فرنسا.
هذه المنطقة ومياهها، وهما عنصران لا ينفصلان، كسبا الشهرة من 'عظماء التاريخ' الذين أبدوا إعجابهم بفيشي، حيث كانت النساء يبدلن فساتينهن خمس مرات في اليوم.
ويبرز في قلب فيشي صرح رمزي Centre thermal des Dômes (1903، مكلّل بقبّة على الطراز الإسلامي. هذه المدينة وفية لزوارها وقد استمدت عمارتها من مسقط رؤوسهم. فالباشوات المصريون لم يكونوا بمنأى عن فيشي.
حتى فيليب العربي مرّ من هنا، فعند مدخل الصرح نصب بارتفاع 2.35 متر يحدد المسافة بين فيشي وClermont-Ferrand، وهو مكرس للإمبراطور الروماني ونجله (248-249 قبل الميلاد).
كان المبنى مقسماً إلى ثلاث طبقات هندسياً واجتماعياً، قاعات مخصصة للنساء واخرى للرجال، لم يكن الإختلاط جائزاً في ما مضى. عندما تدخله قد يتراءى لك أنك قصدت مسرحاً أو كاتدرائية أوروبية إنما مزخرفة جدرانها برسوم بنبعث منها لون حياة فيشي، الأزرق الذي يصبغ حوريات
(Les Naïades) يملأن الجرار.
هو مكان جميل لشهر عسل هادئ لمن يتخلى عن البحر. ففرصة تمضية يوم يطول ويزول عند الساعة التاسعة والنصف في مقهى ريفي وعائلي بسيط أمرٌ لا يعوّض. ولخيار أمثل لا بد من جلسة Auberge du Pont في بلدة Billy لتذوّق أشهى الأطباق الأوروبية ورؤية مشهد رومانسي استثنائي لنهري Sauldre وLa croisne اللذين يجتازان البلدة.
بعد ثلاثة أعوام من تشييد هذا الصرح الفني، حطت شابة طموحة رحالها في فيشي.
كانت منبهرة بأسلوب عيش فاحشات الثراء اللواتي صمّمت قبعاتهن في ما بعد، فهي جاءت بحثاً عن الشهرة الفنية. غنت في فيشي أغنيتين Cocorico وQui a vu mon chien Coco لقد شكّلت فيشي محطة معنوية رئيسية في حياة غابرييل شانيل سيدة الموضة الفرنسية المعتدّة بنفسها.
هي التي كانت تلقّب نفسها بـ 'آخر براكين Auvergne'. هنا أغلقت جهاز التسجيل للإستفسار عن 'تفاصيل شانيلية' لا تصب في مصلحة هذا النص. حتى أنني نسيت طوال دقائق أن أدوّن بعض الملاحظات مع الإقتراب من صرح آخر.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024