ريو دي جانيرو مدينة برازيلية...
البرازيل بلاد تكسوها على امتداد مساحتها الشاسعة لوحات تغمرها ألوان مائية تتدفق فيها الأخيلة بين رقصة سامبا في يوم كرنفالي تتنافس فيه الأجساد بأزياء فرحة على إيقاعات متسارعة، وتلاعب أقدام بكرة تتدحرج بخفة تباغت الأعين المحدّقة إليها لترمي نفسها وسط شباك النصر، ورائحة قهوة تتسرّب من فضائها اللاتيني عابرة الأطلسي لتوقظ أحاسيس من يسكن في القسم الآخر من الكرة الأرضية.
السفر إلى البرازيل، وتحديدًا إلى ريو دي جانيرو، يعني رحلة إلى بلاد الأحلام والأعراق المختلطة والإيقاعات المغتبطة، فيطيب لزائرها التيه بين أروقة فردوس استوائي حيث مدن نذرت روحها وجسدها للموسيقى، وغابات أمازونية عذراء انفلتت من قبضة الإسمنت ليبقى الأخضر بتدرّجّاته سيد أروقتها الدغلية، وشواطئ لؤلؤية على امتداد 8000 كيلومتر تذوب في ذرّات رمالها الدافئة أساطير بحارة الأطلسي الذين حلموا بالعالم الجديد، لتسرح عندها سفينة مكتشفها الرحّالة البرتغالي بيدرو ألفاريس كابرال عام 1500.
ريو دي جانيرو
ريو دي جانيرو مدينة عندما يُنطق اسمها تنهال على مخيّلتك صور تحرّكها ألوان مبهرجة سقطت على أشكال غريبة تتراقص بخفة وسط شوارع تعيش فرح كرنفال شهر شباط/ فبراير، الذي تتنافس فيه فرق مدارس السامبا على إطلاق العنان لحركة الأجساد متحدية الإيقاعات السريعة في رسم مشهد أسطوري لطقس برازيلي يحوّل أحياء ريو دي جانيرو وشوارعها إلى أنهار بشرية تتدفق فرحًا يغرق المدينة لسبعة أيام بلياليها بالأنوار والموسيقى.
المفارقة أنه بسبب التباس تحوّل اسم ريا دي جانيرو، ويعني جون يناير، إلى ريو دي جانيرو الذي نعرفه اليوم و يعني نهر يناير. ومهما يكن من التباس أو خطأ لفظي فإن المدينة تشكّل بالنسبة إلى البرازيليين المدينة الرائعة، يسكنها أكثر من سبعة ملايين كاريوكاس( كاريوكاس كلمة توبية مشتقة من كاريوكا وتعني الرجل الأبيض الذي يسكن البيت) يعيشون وسط المحيط والجبل، جاعلين من ريو دي جانيرو أكثر مدن العالم كثافة سكّانية.
ورغم أن ثلث سكّانها يعيشون في أكواخ تزنّر خاصرة الجبل، فإن العطش لحب الحياة وثقافة جمال الجسد والرقص تطبع شخصياتهم بالرغبة في الاحتفال على مدار السنة. ولا يمكن أحدًا أن يدرك هذه التناقضات إلا عندما يجول في المدينة ويتعرّف إليها عن كثب.
كوباكابانا وإيبانيما
يعتبر شاطئا كوباكابانا وإببانيما من أكثر الشواطئ شهرة في العالم. فكوباكابانا الممتد على أربعة كيلومترات، وتقوسّه المثالي، هو رمز ريو دي جانيرو الذي يغذّي الخيال الجماعي لسكان المدينة وزوارها.
اشتهر الشاطئ بالقصور المنتشرة على طوله التي شُيّدت في عشرينات القرن العشرين. كان الشاطئ مقصد نجوم هوليوود في ستينات القرن الماضي، كما عشقه الفنان الفرنسي هنري سالفادور، فذكره في نصوص أجمل أغانيه.
لم يبهت الزمن جمال الشاطئ اللؤلؤي فسكّان ريو زادوه سحرًا، وعلى محاذاته ينتشر باعة عصير جوز الهند الصغار ومناديل الشاطئ المطبوعة بألوان البلاد. أما نحاتو الرمال، فينافسون المخيلة ويزينون الشاطئ بإبداعهم الذي يتفتق منحوتات رملية رائعة تتحدى مدّ أمواج المحيط الأزرق وجزرها في التجرؤ على هدمها.
يتسلل الروّاد إلى الشاطئ تدريجًا خلال النهار، فيتلوّن بين من يريد أن يستلقي على رماله اللؤلؤية ليكتسب سمرة برونزية، وبين من يمارس هوايته الرياضية، وبين من يريد أن يجالس أصدقاءه لمجرّد الثرثرة ينفسّون فيها عن همومهم ويتطلعون إلى أحلامهم التي لا تعرف المغيب.
أما شاطئ إيبانيما الموجود شرق ريو، فهو مكان أقل شهرة ولكنه أكثر روعة من قرينه، وهو مقصد هواة الرياضة بكل أنواعها. ويقع في الحي السكني الأكثر ثراءً في المدينة.
تستقبل أمواجه هواة الرياضة الشراعية، واليخوت التي تستريح على مرساه. وهو شاطئ هادئ وملتقى شباب الطبقة الراقية.
وتنتشر على طوله المقاهي التي تقّدم الأطباق البحرية.
هضبة خبز السكّر
عند شبه جزيرة وعند مدخل خليج غوانابرا تقف ببهاء هضبة خبز السكر وتعرف أيضًا بـ «باو دي أسوكار»، وهي واحدة من قمم ريو دي جانيرو الرائعة.
نالت اسمها بسبب بنيتها ومظهرها الفريدين، ونحتها الزمن في الرخام.
الصعود إلى هذه القمة عبر المصعد الهوائي (تليفريك) يقدّم مشهدًا بانوراميًا عزّ نظيره في العالم، خصوصًا عند ساعات الصباح أو عند الغروب حين يبدو الشاطئ لوحة تبعثرت الألوان فيها بفوضى جميلة.
تياترو مونيسيبال
لا ينتهي التجوال في ريو عند هذه الروائع بل يمنحك وسط المدينة التجاري القديم الموجود، بين المرفأ والمسرح البلدي تياترو مونيسيبال، المستوحى من أوبرا غارنييه الباريسي، فرصة التعرّف إلى فن العمارة للكاريوكا خلال الحقبة الاستعمارية البرتغالية. أما أقواس دي لابا التي شيدت عام 1723 لتجلب الماء إلى وسط المدينة، فتحوّلت إلى خط ترامواي يصل وسط المدينة بحي سانتا تيريزا.
تبهرك ريو دي جانيرو بتناقضاتها:أكواخ صفيح أنهكها الفقر تتسلّق خاصرة جبل يتأمل في قصور فخمة افترشت الساحل، وشواطئ لؤلؤية يستلقي على رمالها طلاب السمرة مهما اختلفت طبقاتهم الاجتماعية، ملاعب رياضية تنتظر فتى موهوبًا يداعب الكرة حافي القدمين في ساحة الحي المتواضعة، لتحوّله إلى أغلى لاعب في العالم، وجوه تغيّر ملامحها الحزينة فور سماعها إيقاع السامبا فتغمرها الغبطة وكأن لديها سعادة مزمنة.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024