البيرو.. بلاد حضارة الإنكا
وسط الإكوادور وكولومبيا والبرازيل وبوليفيا وتشيلي ثمّة بلاد ترتاح شطآنها على المحيط الهادئ لتلوّح الشمس جبينها الأسمر وتنسج بأناملها الأرجوانية خيوط رواية حضارة الإنكا. إنها البيرو الساكنة وسط عالم من الجمال الطبيعي يتوقف فيه نبض الزمن ليغض الطرف عن هروبه من بين قضبانه، فيتركه حرًا كما النسر المحلّق فوق جبال الآند المهيبة، ليرتاح مساءً في وكره ويتأمل الأفق الأزرق الذي يغرق في ليل يرصّع ستارته السوداء القمر والنجوم فتسقط أنوارها على رؤوس قمم، بعضها احتفظ ببقايا ثلج الشتاء، وكأنها شخوص عملاقة تتسامر بهمس كي لا توقظ الريح.
والبيرو هي أحد بلدان أميركا الجنوبية التي تملك كنوزًا لا أثمان لها. فهنا تسكن أطلال حضارة الإنكا في ماتشو بيتشو، ويتعرّج قطار صغير بين أروقة جبال الآند، وينزلق زورق من نهر مادر دي ديوس عبر الغابة الأمازونية. فالبيرو تتميز بثلاثة أنواع من الريف: في الشرق ساحل صحراوي يحاذي المحيط الهادئ تزخرفه الكثبان والمدن من بينها ليما العاصمة، وفي الوسط تتدحرج المنحدرات الغربية والشرقية لسلسلة جبال الآند، حيث تقع هواسكاران Huascaranأعلى قمة في البيرو ويبلغ ارتفاعها 6768 مترًا، وعند أقدامها تقبع قرى هندو- أميركية. وفي الغرب تمتد الغابات الاستوائية الأكبر في منطقة الأمازون يرويها نهرا مارانون ويوكايالي.
ليما Lima العاصمة
يستحيل على زائر البيرو ألا يزور عاصمتها ليما لما لها من طابع فريد يحضن ألوان البيرو في فضائه، فسكّانها لا يزالون يحتفظون بروحهم المضيافة المرّحبة رغم سرعة وتيرة الحياة العصرية، وفي شوارعها تختلط الأزياء العصرية بالتراثية فتلتقي نسوة ورجالاً يرتدون الزي والقبعة التقليديين للبيرو يسيرون جنبًا إلى جنب مع من اختار الأزياء العصرية فيتراءى لك مشهد من الأمواج البشرية التي جمعت كل ألوان طبيعة البيرو.
لا يتوقع من ينوي زيارة ليما أن يجول في مدينة غريبة تائهة وسط الأدغال. فهي مدينة عصرية مزدحمة يسكن فيها سبعة ملايين نسمة، وتضخم عدد سكانها بسبب هجرة أهل الريف إليها بحثًا عن حياة أفضل، ليعيشوا في أكواخ خشبية ويطلق عليهم السكان الجدد. أسس المدينة بيزارو عام 1535 على ركام مدينة هندية لا تزال بعض أطلالها ظاهرة للعيان. وتضم ليما مجموعة من الفنادق والمقاهي، بعضها أسعارها مقبولة موجودة في بارانكوBarranco ، فيما الفنادق الفخمة موجودة في ميرافلوريس Miraflores.
يتميز وسط المدينة بالنمط المعماري الكولونيالي الأسباني، فهو مترابط بشكل مربّعات متناسقة تحيط ساحة بلازا دي أرماسPlazza de armas التي لا يمكن الانفلات من سحرها خصوصًا بعدما أعيد ترميم أبنيتها التي يعود تاريخها إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر، وتتميز بالنمط الباروكي. تتحلق حول الساحة المقاهي والمتاجر التي تتنوّع معروضاتها بين الألبسة والأشغال اليدوية التقليدية والمجوهرات... . كما تضم ليما مجموعة من المتاحف التي تعرض مجموعات مهمة من الأعمال التاريخية، مثل متحف الذهب ومتحف الأنتروبولوجيا وعلم الآثار الوطني.
أما التسوّق في ليما فله طرق عدة تنتظر زائرها، منها ميرافلوريس وجادة ألفريدو مانديولا وكال شينشون 950 ولا مولينا 1152 ، وكلها تضم متاجر تعرض الأزياء والجلديات والمجوهرات والمشغولات اليدوية التقليدية لشعب البيرو.
كوزكو Cuzco
لا يستطيع السائح مقاومة سحر كوزكو نظرًا إلى أنها كانت عاصمة إمبراطورية الإنكا التي امتدت سلطتها في القرن الخامس عشر إلى البلدان المجاورة، وكان الإنكا يعتبرونها مركز العالم. ففي كوزكو لا تزال حضارة الإنكا تسرح وتمرح في أروقة تاريخية لأطلال تروي أساطير شعب الإنكا في ماتشو بيتشوMachu picchu.
يدهش زائر كوزكو بالأسلوب المعماري للإنكا الذي تميّز بتقنيات هندسية متطوّرة وطريقة بناء فريدة. فالتخطيط المدني كان قائمًا على نظام الجادات الرئيسية المتقاطعة مع شوارع فرعية تتلاقى في ساحة رئيسية مفتوحة محاطة بالأبنية الحكومية والمعابد، وتُلاحَظ الأسوار العملاقة التي تحاذي الشوارع الضيّقة والمكوّنة من الحجارة المرصوصة بشكل رائع من دون أن يُملأ فراغها بحشوات رملية. أما الأبنية السكنية فهي مكوّنة من طبقة واحدة مرصوصة بحجارة مقطعة بدقّة لامتناهية. وتعتبر ساحة المدينة الرئيسة، والتي تعرف أيضًا ببلازا دو أرماس، نموذجًا لتمازج الثقافة الأسبانية وثقافة الإنكا، ومنها ينطلق الزائر لاكتشاف روائع المدينة. ففي حي سان بلاس San Blas تنتشر الأزقة المنحدرة والضيّقة المكتظّة ببيوت قديمة طليت بالأبيض. أما أبوابها فطليت بالأزرق مما يعكس روح سحر تزاوج حضارتي الإنكا والإسبان الفريدتين.
وتعتبر كنيسة ميرسيد Mercedومعبد الشمس من أجمل المواقع الأثرية وأقدمهما في البيرو. وتقوم في لوريتو Loreto ، وعلى أطلال موقع مقدس للإنكا، محبسة سانتا كاتالينا. فقبل خمسة قرون كانت تسكن هذا الدير راهبات وكان عددهن حوالي 3000 امرأة وشابة كان جمالهن سبب اختيارهن الرهبنة.
تعتبر ماتشو بيتشو Machu Picchu التي تقع على ارتفاع 2440 مترًا أروع معالم البيرو الأثرية. فعندما يقف زائرها في أحضانها يشعر برهبة التاريخ وبعبقرية شعب الإنكا في البناء إلى درجة يظن فيها أنها مدينة انفلتت من قبضة التاريخ وعوامل الجغرافيا الطبيعية.
فماتشو بيتشو المدينة المقدّسة ليست فقط جوهرة الفن المعماري لشعب الإنكا بل تعبير سامٍ عن تماهي الإنسان مع الطبيعة. فهي قلعة تقع عند ذروة قمّة جبلية مروّسة فوق نهر مضطرب يصارع ريحًا قوية تتسرّب من جبال انزلقت من خاصرة جبل أمازوني.
تنقسم مدينة ماتشو بيتشو دائرتين: الأولى الدائرة الزراعية، والثانية الدائرة المُدُنية حيث توجد ساحات ومعابد وقصور ومخازن ومحترفات ومدرّجات وينابيع نسّقت على مساحة تراوح بين عشرة وعشرين هكتارًا. تتألف المدينة الأثرية من أحياء منفصلة عن بعضها بساحة مركزية.
فيميز زائر المكان المعالم الدينية والبيوت التي كان يسكنها عليّة القوم من خلال الحجارة المرصوصة بدقة، فيما بيوت العامة مبينة من حجر الآجر. ومن الأحياء الفريدة حي المزارعين المؤلف من مصطبات مزروعة ونظام ري هندسي متطور وسواقٍ متعرّجة.
وهناك شارع الينابيع وهو شارع صغير مؤلف من مجموعة أحواض منظمة بشكل كل حوض يليه آخر. أما إنتيواتانا مركز مراقبة الفلك، فهو المكان الأعلى في المدينة والأكثر غموضًا، يشرف على كل المدينة مما يتيح لزائر المكان مشهدًا عز نظيره.
بحيرة تيتيكاكا Titicaca
على ارتفاع 3820 مترًا تطفو بحيرة تيتيكاكا، أعلى بحيرة في العالم. فهنا الهواء نقي إلى أقصى الحدود والأزرق الكثيف يلوّن السماء والبحيرة التي تسبح في النور الوضّاح. تنطلق المراكب من بونو نحو البحيرة لتبحر وسط جزر عائمة مكوّنة من طبقات القصب تحصد على ضفاف البحيرة حيث يعيش سكان هنود.
شارك
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024