فلورنسا... مهد النهضة الإيطالية والأوروبية
فلورنسا مهد النهضة الإيطالية والأوروبية حيث حلّق الإبداع الفني والفكري، لينفض عنه رماد عصور الظلام. إنها مدينة نيقولا ماكيافيللي صاحب كتاب «الأمير»، ومدينة اليغياري دانتي مؤلف «الكوميديا الإلهية». وهي المدينة التي تفتقت فيها عبقرية مايكل أنجلو الذي قال عندما انتهى من منحوتته الشهيرة «موسى» «أنطق يا حجر». لو كان مايكل أنجلو حيًا اليوم لرأى أن التاريخ المحتشد في فلورنسا ينطق رغم الصمت ويراقب رغم حركة العصر التي تنساب بين أروقته، تارة بخفر وأخرى بدهشة. كل هؤلاء ظهروا على صفحات ذاكرتي عندما أخبرتني زميلتي كارول أنها ستمضي إجازتها في فلورنسا. فانتظرت عودتها بفارغ الصبر كي تحدّثني عن هذه المدينة معقل الفن والأدب والسياسة...
الانطباع الأوّل: فلورنسا مدينة لا يغفل لها جفن
انهالت أسئلتي الفضولية على كارول التي حدّثتني قائلة: «وصلت إلى فلورنسا مساءً وكانت المدينة قد ارتدت ثوبها الليلي المزركش بأنوار الفضة رغم برد كانون الثاني/ يناير القارس. للوهلة الأولى شعرت بأنني في مدينة لا يغفل لها جفن ، حسناء إيطالية مفعمة بالحياة وتتحدى دوران الأرض. ليلها يشبه نهارها، تنثر بأناملها الرقيقة كل الترف الإيطالي، وكأن بالزمن يخجل من رسم تجاعيده على وجهها، بل يطلق لها العنان للاحتفاظ بنضارة شبابها.
ولو لم أكن اشعر بتعب السفر لما فوّت مشاركة فلورنسا حركتها الليلية في أمسيتي الأولى».
أضافت: «عند الصباح استفقت على أصوات ظننتها في البداية أناشيد صباحية ولكن لم يكن الأمر كذلك، بل كانت تحية الصباح يتبادلها أصحاب المقاهي والبوتيكات.
لاحظت أن اللغة الإيطالية إيقاعية فعندما يتحدّث ناطقوها تظنين أن فرقة زجل تتبارى في إطلاق الأبيات الشعرية باللغة العامّية. قلت لأختي هيّا بنا نعيش المغامرة الإيطالية من ألفها إلى يائها.
ولحسن حظنا أن بيت صديقتنا الإيطالية التي استقبلتنا يقع في وسط المدينة. نزلنا إلى المقهى الموجود في أسفل المبنى وطلبنا فنجان القهوة الإيطالي الأشهر كابوتشينو، وكان النادل ظريفًا تغلب عليه طباع سكان البحر الأبيض المتوسّط لا سيّما الشرق الأوسط، فهو عندما يتحدّث لا يحرّك شفتيه فحسب بل تلاحظين أن يديه وعينيه وكل شيء فيه يرافق حركة شفتيه. فأدركت وأختي رانيا أن إجازتنا في فلورنسا سوف يكون لها طعم فريد».
وسط المدينة متحف تحتشد فيه الأعمال الفنية في الهواء الطلق
تتابع زميلتي روايتها: «انتهينا من الكابوتشينو وبدأنا التجوال في أحضان العالم الفلورنسي.
لم نخش التيه في فلورنسا رغم أن سكانها لا يتحدّثون سوى الإيطالية، ولكن الطريف أنك عندما تسألين يبذلون مجهودًا كبيرًا من دون تأفف ليجيبوك أو يرشدوك إلى المكان الذي تودّين الذهاب إليه. ومن الأمور الطريفة التي حدثت معي أنني سألت أحد المارة عن أحد الأمكنة قائلة: "is it close" وكنت أعني هل هو قريب؟ فجاوبني "no it s open" وحاولت قدر المستطاع شرح ما أعنيه.
المهم يمكن القول إن وسط المدينة متحف تحتشد فيه الأعمال الفنية في الهواء الطلق. كل هذا جعلني أتساءل كيف استطاع فنانو ذاك الزمان بناء هذه التحف المعمارية العملاقة التي تنم عن شغف لا حدود له بالفن، حتى كاميرتي الرقمية لم تستطع عدستها استيعاب ما تصوّره فكأن الفن يسابقني ويتحداني. فما أن أحاول ضغط الزر لألتقط مشهدًا رائعًا ينبثق خلفه مشهد يضاهيه فنًا وروعة. كنت أسير وأختي مندهشتين بكل ما تراه عيوننا، إلى أن داهمنا الجوع فاسترحنا في أحد المطاعم لتناول الغداء.
بالفعل في فلورنسا لا يمكن أن تقرّري الطبق الأطيب فكل أنواع الأطباق لذيذة إلى درجة تشعرين معها بالشراهة وتنسين مسألة الحمية. هل تصدقين أننا كنا ننتظر مواقيت وجبتي الغداء والعشاء بفارغ الصبر! بالفعل الأطباق شهية جدًا في فلورنسا و لا يمكن تفويتها. الطريف أننا دخلنا إلى مطعم تصدح فيه أغنيات فيروز فتساءلت وأختي بصوت عالٍ هل هذا مطعم لبناني؟ وإذا بصوت يرّد نعم إنه كذلك».
بين رواق فساري وحدائق بوبولي كل أسرار فن عصر النهضة
بعد وسط المدينة سرنا في شوارع المدينة وذاكرة التاريخ تحدّثنا عن نفسها في كل زاوية ورواق. فرواق «فساري» الذي كان يتسلل منه الأمير هربًا من محاولات الاغتيال، ليس مجرّد رواق بل تحفة فنيّة تثير فيك رغبة الهرب ليس من المتآمرين بل من مدن عصرية باردة إلى دفء تاريخي يشعرك بعظمته. وعلى يسار نهر أرنو ساحة ديل ديمو حيث تقوم كاتدرائية سانتا ماريا دل فيوريه مطوّقة بقبّة ضخمة مثمّنة الزوايا من تصميم برونولتشي ومنقوشة ببرج رسمه جيوتو.
بينما بالاتسو فيتشيو أوّل قصر ملكي يعلوه جرس يبلغ ارتفاعه ٩٤ مترًا يشرف على بيازا ديللا سنيورا حيث توجد لا لوجيا دي لانزي التي كانت قاعة الاجتماعات ومركز الاحتفالات العامة، تصطف فيها المنحوتات البرونزية من أعمال بينفينو سيللينين. وبين بالازيو فيشتيو وجسر أرنو يقع متحف أوفيتسي الذي تعرض فيه أروع اللوحات التي جمعتها عائلة ميديتشي التي حكمت فلورنسا في القرن السادس عشر.
وعند جسر فيكيو الذي قاوم همجية الحرب العالمية الثانية التي دمّرت جسور فلورنسا السبعة، شعرنا أنا وأختي برهبة التاريخ الذي يترك دائما شاهدًا على أحداثه. تنتشر على طرفي الجسر المتاجر القديمة.
وكم كانت جميلة الاستراحة في حدائق بوبولي أروع حدائق إيطاليا حيث النوافير والمنحوتات الفنية تحتشد في المكان، فما كان منا إلا تسلق المدرج حتى قمته لنستمتع بمشهد بانورامي لفلورنسا الساحرة لحظة الغروب.
عدنا أدراجنا إلى البيت وسحر النزهة الذي تغلغل في فكري جعلني أغط في نوم عميق لأستفيق في اليوم التالي والحماسة تجتاحني للذهاب إلى بيزا التي تبعد عن فلورنسا حوالى ساعة بالسيارة».
في برج بيزا المائل درس غاليلو قانون سقوط الأشياء
«لم أشعر بالملل أثناء الرحلة إلى بيزا فالمشاهد الطبيعية الخلابة كانت كفيلة بحرق المسافة الزمنية التي تفصلني عن هذه المدينة المشهورة ببرجها المائل. هنا تتكرر المشاهد وروائع عصر النهضة تتبارى في إدهاش زائري المكان. تشارك بيزا فلورنسا نهر أرنو، والتجوال فيها يعطي انطباعًا بأنها عاصمة صغيرة فقدت مع الزمن نشاطها المبالغ فيه، ورغم ذلك فإن سحرها يكمن في فضائها الأرستقراطي وأسلوب حياة سكّان البحر الأبيض المتوسّط. يمكن القول إن بيزا محاطة بأسوار تخترقينها من الشمال إلى الجنوب عبر شارع رئيسي تنتشر على جنباته المتاجر، فالجهة الجنوبية حيث الطريق العام كورسو إيطاليا، أما في الجهة الشمالية فالطريق ضيقة تحيطها الأقواس معروفة ببورغو ستريتو.
وفي ساحة بيازا داي مياراكولي أو ساحة العجائب تقع كاتدرائية سانتا ماريا يظهر خلفها برج بيزا المائل بكل أبهة ليدهش زوّار المكان. ويقال إن العالم الفيزيائي غاليلو، وهو ابن بيزا وعاش في القرن السادس عشر، كان يأتي إلى هذا البرج ليراقب النجوم ويدرس قانون سقوط الأجسام وانتظام سرعة الحركة. هنا في هذه الساحة تلتقين الناس الذين جاؤوا من كل أنحاء المعمورة ليلتقطوا صورة خادعة تظهر أنهم يمنعون البرج من السقوط. وتنتشر في الساحة المقاهي والبوتيكات التي تعرض إما التذكارت أو منتجات أرقى دور الأزياء الإيطالية.
بعد هذه الزيارة الفريدة من نوعها عدنا إلى وسط فلورنسا التجاري حيث أطلقت العنان للتسوق وعشت تجربة الحصول على أهم الماركات بأسعار مغرية خلال موسم التنزيلات».
سيينا بلدة وديعة تدعوك إلى مغامرة ريفية إيطالية
«قبل العودة إلى لبنان بيومين ذهبنا إلى سيينا، وهي بلدة قديمة تسكن عند قمة الجبل. أشعر بأنني عاجزة عن وصف هذه البلدة الوديعة، فالطريق إليها كانت معبّدة بالأخضر بكل تدرّجاته وأشكاله. وصلنا إلى أقدام هضبة وصعدنا سلمًا كهربائيًا رمانا وسط سيينا حيث تحتشد بيوت القرميد والأبنية المشيّدة على نمط الفن القوطي يغلب عليها ألوان الأصفر الترابي.
يخيم على البلدة السكون فتظنين أن الحركة تزحف ببطء بين أزقتها الضيّقة وكأنها تدعوك إلى مغامرة ريفية إيطالية ، إلى أن يطالعك برج بالازو بابليكو وكاتدرائية بلاك أند وايت اللذان يشرفان على البلدة ويمكن رؤيتهما من مسافة كيلومترات».
ختمت كارول حديثها عن مغامرتها الإيطالية بالقول: «رغم أنني كنت في اليومين الأخرين لوجودي في فلورنسا شبه مفلسة لم أنزعج أو أتذمر، فهذه المدينة جعلتني مغمورة بالغبطة إذ يكفي أن تتجوّلي في شوارعها وأزقتها وتتعرفي إلى التاريخ المتناثر في كل أرجائها وتلتقي ناسها وتشعري بالدف رغم البرد في هذه الفترة من السنة، حتى تشعري بالفيض الروحي والفكري وتنسي كل هموم العمل وبرودة الحياة العصرية».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024