تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

مدينة الصيادين لوغانو

إلى زمن ال«دولتشي فيتا»، نزهة خيال هادئة وهائلة في مدينة الصيادين لوغانو. مدينة سويسرية تقع في جنوب مسقط رؤوس المبدعين مسيّجة بالجبال وترتوي من بحيرة سيريزيو. مدينة فاتنة بقامة «لوليتا» تقع عند الحدود الإيطالية ضمن القسم الناطق بالإيطالية منذ العام ١٨٠٣، تيتشينو. هي مرفأ الصيادين الصغير طوال قرون الذي بات أهم موقع سياحي سويسري طوال العام، لوغانو معقل جمالٍ طوقته الجبال. لوحات حيّة رسمتها طبيعة لوغانو بنكهة القهوة الإيطالية والشوكولا.

من مطار ميلانو-مالبنسا (على بعد أقل من ساعة من لوغانو) يبدأ المشوار. يوم إستثنائي في ميلانو فكرة رائعة لتفقد عاصمة إقليم لومبارديا الإيطالي. فليس منطقياً أن تطأ قدما المرء أرض ميلانو دون التماهي مع عناق الإبداع الفني، الموضة والعمارة التاريخية.
لا بد من التنقّل تحت شمس ساحة Piazza del Duomo (التي شهدت حادثة ضرب رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني أخيراً) وزيارة مسرح La Scala التاريخي ومن ثم الإنصراف إلى متعة التسوّق في المتاجر الفاخرة. أما لدى الوصول إلى لوغانو، فلن يواجه السائح صعوبة في إكتشاف لغز الطبيعة العذبة. إذ يحظى بفرصة القيام برحلات محلية، فمطار لوغانو-أنيو على بعد دقائق قليلة من وسط المدينة وهو مرتبط بمطارات زوريخ وجنيف وروما.


يقع في منطقة أنيو Agno على مسافة ستة كيلومترات من المدينة، وفي وسع الزائر أن يقرر السفر عبره قبل ٢٠ دقيقة من إنطلاق الرحلة.

خطوات في شوارع لوغانو
مسيّجة بالجبال التي إقتربت لترتوي من بحيرة Ceresio، مدينة المشاة تغلق طبيعتها على التاريخ بمبانيها الدينية وشرفاتها المترفة بالزهور وفنها الخيالي. تقع لوغانو جنوب منطقة Monte Ceneri. تقدم في كل موسم خياراً للمتعة عبر سبل التنقل، القطارات والقوارب والباص والتلفريك وحتى الطائرة. وهنا سرعة تفقّد المكان وإكتشاف الروعة والسفر عبر القرون والعقود لمعرفة التيارات الفنية، فلوغانو أرض خصبة بالخضرة والتضاريس الفاتنة والفن. تكتنز كنائسها ومبانيها النيو-كلاسيكية التاريخ وتحتبس ثقافته بترف. هنا الرسم الجصّي Fresco العائد إلى القرن السادس عشر، وهنا زخرفات برناردينو لويني تلميذ ليوناردو دا فينشي التي تعود على العام ١٥٢٩. هنالك كاتدرائية سان لورينزو التي تحمل بصمة النهضة الأوروبية في مهدها. وتدعوك ذاكرة الفن إلى ساحة ديللا ريفورما Piazza Della Riforma المزدحمة التي تثير الرغبة في إحتساء فنجان إسبريسو أو كوب كابتشينو في مقاهٍ آهلة بالأجواء المتوسّطية.

إلاّ أن التسوّق في لوغانو تحكمه قواعد برجوازية، فنهار هذه المدينة بعمر الزهور التي تفترش وسط المدينة وكل أنحائها خصوصاً Via Nassa، مركز التسوق و Via Pessina الشهيرة بمقهى Grand Café Al Porto. 

محميّة مسيّجة بالجبال
على ضفاف بحيرة Ceresio وفي ضيافة ترف الطبيعة المتراصة، يستحم جبل Monte Brè. وهو النقطة الأكثر سطوعاً في سويسرا. تلمس في قرية القرميد «بري» السكون النفسي والبساطة المنفصلة عن واقعية البصر. وباستطاعة الزائر القيام برحلات على القدمين في الطبيعة التي تستعيد مع كل إشراقة الأعمال الفنية في المتاحف الواقعة في وسط المدينة، ومن ثم تناول الغداء في مطعم Osteria تحت ظلال الصنوبر الشفافة. كما يدعوك متحف القرية إلى إلقاء النظر على لوحات الفنان السويسري ويليام شميد التي تجسد «الواقعية العجائبية» Magic Realism. خضرة «مونتي بري» الغنية، أشجار الكستناء والسنديان والبلّوط والبتيولا والزيتون السانحة للتماهي مع الطبيعة، هي سمات واجهته الجنوبية والمحطات المؤدية إليه (كاستانيولا وغاندريا). تشكّل الطبيعة والمواقع الخلابة والنصب التاريخية الثروة الفدرالية السويسرية والقيمة الوطنية المرتبطة بالخصوصية الجيولوجية والنباتية وفن العمارة.

إنطلق من «مونتي بْري» في نزهة مغامرة عبر الممرّات الضيّقة التي تأخذك إلى ماتروني في جبل بوغليا (١٥١٦ م) المؤدي إلى Capanna Pairolo وDenti Della Vecchia،وAlpe وBolla (١١٢٩م) وPedra Grossa (٨٠٩ م) حيث أحراج الزان الزاهية. إختبر متعة ركوب الدراجة والإنطلاق إلى الجبال والقمم التي يصل إرتقاعها إلى ٢٠٠٠ متر. سياحة ذكية في قسم من لوغانو إنطلاقتها عند أسفل جبل Monte Bré حيث الميناء التاريخي.

نظرة شاهقة على لوغانو
من بلدة كاساراتي Cassarate نصعد إلى جبل مونتي بْري، مشهد رائع يطل بنظرة شاملة على لوغانو التي أنارتها البحيرة بهالة وسطية وبثت الحياة فيها، كذلك تطلّ على سلسلة جبال الألب الواقعة في العاصمة السويسرية برن ومقاطعة فاليز. أما الوصول إلى جبل مونتي سان سالفاتوري، فهو عبر المنطقة الواقعة على بحيرة ceresio، كذلك جبل سان جيورجيو الذي يكتنز نقوش حيوانية تعود إلى العصر الترياسي (الثلاثي) مما جعله على لائحة معالم التراث العالمي في الأونيسكو. كما يمكن تناول العشاء في مطعم Vetta Monte Lema المطل على بحيرة لوغانو ولومبارديا.
هذه الجبال ينضم إليها Monte Generoso الذي يشكّل نافذة لرؤية بانورامية على تيتشينو، السبيل إليه ركوب القطار من منطقة Capolago.

أما قمة جبل Monte San Salvatore فمجهزة بمناظير، دعوة للدهشة ورؤية لوغانو والأراضي الإيطالية عن بعد عمودي. وتحفر أودية مالكاتون الواقعة بين بحيرة لوغانو وجبل مونتي ليما سحراً خرافياً، فهي تنتشر بين القمم البانورامية زالمياه الفيروزية وتلحق بمجرى نهر ماغليازينا المتدفّق من مونتي ليما (١٦٠٠ متر). تستضيف بلدة ماكاتون السائح بين أحضان البحيرة وخليج أنيو ونهر تريزا وتشرف على المرتفعات الفاصلة بين سويسرا وإيطاليا.

مدينة المنتزهات
لوغانو فاكهة أنضجتها بحيرة Ceresio والطقس اللطيف، فتفتحت الورود والأزهار النادرة ذات الأريج الساحر الذي يصيب بدوار حالم. زاوية من الجنة، خضرة إستوائية تتعانق مع البرودة ويمسي التناقض اللوني بين الأبيض والأخضر. نزهات وبانوراما أفقية تسبح بها الخيال التي سرعان ما ترتقي لحوار الجبال والتلال الحاضنة للبحيرة. ويطفو متنزه Ciano على ضفاف البحيرة التي تمارت بخضرته منذ العام ١٨٤٥، والتي ترسم حدودها أشجار «كستناء الحصان» حيث يتنصب البطل الأسطوري غيليوم تيل . ففي هذا التاريخ إشترى الأخوان Ciani- ثريان من ميلانو- المساحة التي باتت اليوم المنتزه لكنهما واجها مشكلة الفيضان الدوري لنهر كساراتي كذلك إرتفاع منسوب البحيرة مما أدّى إلى أضرار كبيرة. عام ١٩١٢ إشترت مدينة لوغانو المنتزه بمليون ونصف المليون فرنك.

وهي اليوم من أجمل المنتزهات السويسرية الحاضنة للأشجار البلوط والزيزفون والدّلب والتوت البرّي، إضافة إلى النخيل والزيتون والكاميليا والفلّين والأزادرخت وحتى الكافور. أما قوة الجذب في المنتزه، فهي الأزهار المزروعة على محاذاة البحيرة والتي تجسّد إنفجاراً لونياً مترفاً بسحر الطبيعة المتآخية وبوابتها المشرفة بصفاء على إلتقاء البحيرة بالسماء. أما متنزه Parco del Tassino الذي يبعد دقائق معدودة عن محطة قطار لوغانو، فهو كان ملك عائلة إندلين الثرية، وكان في السابق ميداناً للصيد وتحوّل في القرن العشرين إلى فندق.

لكن لاحقاً أمست الأرض ملك إتحاد سكك الحديد الذي باع قسماً منها (٢١ ألف متر مربع) إلى مدينة لوغانو التي صانت ذكريات المتنزه ونسبت برجه إلى عائلة Enderlin. ويعتبر المتنزه المكان الأمثل لجلسة «بيك-نيك» أوروبية وأرستقراطية في قلب الطبيعة التي يتنقّل في مرتعها الأيل الأسمر والأروية.
كما يباغت البصر بألوان زهوره الهجينة، القرانية اليابانية والوستارية الصينية وشجر الورد المتسلّق. وقد جادت لوغانو في إقتناء التاريخ حين إمتلكت عام ١٩٧٦ فيللا نيغروني - جوهر الحياة الإجتماعية السويسرية الغابرة- لقاء أكثر من أربع ملايين فرنك عام ١٩٧٦ علما أنها إستضافت كبار الشخصيات السياسية والفنية والثقافية في القرن التاسع عشر.


وقد تحوّلت إلى متنزه يحمل صفة التناغم بين الحديقة الإيطالية ولمسة الفن الإنكليزي. وتحاكي أعجوبة الطبيعة مفاجأة فنية لذوّاقة الموسيقى الكلاسيكية العالمية، فمهرجان Festival jazz هو التظاهرة واللقاء الفني الأبرز الذي تستضيفه لوغانو، حيث يمتزج التراث بالسحر طوال خمس أمسيات تصهر الجمهور بأجواء الإحتفالية الراقية تحت سماء مرصعة بالنجوم.

معقل التجارة والذواقة والفخامة
لوغانو هي المركز المالي الثالث في سويسرا حيث أكثر من مئة مؤسسة مصرفية. هنا التنوع والراحة والحلم وإثارة حواس كل الذوّاقة. هنا الساعة السويسرية العريقة تستقيل من الزمان وتضبط على وقع لحظات خالدة مدى الأيام. هنا الترف والبساطة، إبداع مصممي إيطاليا وزائر الليل لن يفتقد متعة السهر في المقاهي وتلبية إنذار الشهية للأطباق المقتبسة عن المطبخ الإيطالي خصوصاً ال«ريزوتو» وال«بولينتا» بالذرة، إضافة إلى أجبان المراعي الجبلية المحيطة، والشوكولا الفاخرة طبعاً التي حافظت على مكانتها رغم الأزمة المالية العالمية، بل وسجلت إرتفاعاً قياسياً في حجم مبيعاتها.
ولا تحلو الإجازة السويسرية إلاّ بصباحات البحيرة التي يطلّ عليها فندق Splendide العريق، حيث كتب الأديب العالمي لويجي بيرانديللو أجمل قصائده حين كان نزيله عام ١٨٩٦. كذلك يشرف على جبلي مونتي بري وسان سالفاتوري. أما فندق Eden، فإلى جانب موقعه المباشر على البحيرة يمنح نزلاءه متعة منعشة ورومانسية ساكنة يرسيها المحيط، التلال الخضراء.

كامبيوني الإيطالية على مسافة خطوة
بلدة إيطالية على بعد دقائق من لوغانو التي يفصلها عنها البحيرة وعدد من الجبال والمناطق السويسرية. وهي تابعة إدارياً لسويسرا ومشهورة بناديها The Casinٍ di Campione الموقّع من المهندس المعماري الشهير ماريو بوتا، وجلساتها الشعبية حيث يمكن تذوّق «الشوكولا شو». تستحق هذه البلدة أن تكون مسك ختام رحلة أوروبية إستنفدت كل الحواس. فلا بأس بجرعة بساطة إيطالية وعفوية الحياة التي تغيب عن لوغانو، معقل البرجوازية والتوقيت الدقيق.

لوحة حالمة
«هنا الشمس مشرقة ودافئة. هنا تنبت فاكهة الشتاء، الكستناء والدوالي وأشجار اللوز والتين. هنا الشعب لطيف ويبادلك الإحترام بإنحناءة»، يقول هيرمان هيسيه الأديب والشاعر والكاتب والروائي الألماني الذي توفي في سويسرا، والحاصل على جائزة نوبل للآداب. توفي في مونتانيولا على تلة Collina d'Oro المطلة على بحيرة لوغانو الرائعة، المكان الذي ختم به مغني البيتلز جورج هاريسون حياته.
هذه الأخيرة تشعرك ببساطة سمو الطبيعة، وبأغنيات فيروز حين يطالعك بكاء اللؤلؤ الدافء على قمم الألب السويسرية. سلام الطبيعة هنا حيث الطيور تحوم بجناح ثلجي تبحث عن صيادي الأمس، هنا حدود الأفق يسجننا في لوحة أو «كارت بوستال» سياحي حي، في كرة بلور إستقالت من الوجود الصاخب.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078