تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

كوبنهاغن الساحرة بجمالها وقصصها الخيالية

«لا يحتاج الإنسان سوى إلى ثلاثة أمتار من الأرض. الإنسان؟ لا، بل جثمانه. فالإنسان يحتاج إلى الكرة الأرضية كلها».

مرّ حوالى القرن على هذه الكلمات التي دوّنها الأديب الروسي أنطون تشيخوف في دفتر ملاحظاته وأجدني  أستحضرها وأنا أراقب وأقرأ أخبار المؤتمر العالمي للتغير المناخي الذي يقام في كوبنهاغن عاصمة الدانمارك. والمفارقة انه لو  كان تشيخوف حيًا اليوم  لسمع الكرة الأرضية وهي تصرخ بأنها في  حاجة إلى الإنسان ليحميها من نفسه ومن عدم مبالاته بها، وإلا لن يكون له مكان لا على سطحها أو حتى في أحشائها. فهل لعب تشيخوف على وتر اللاوعي عند الإنسان الذي عندما يحتاج إلى شيء يفعل المستحيل ليحافظ عليه؟ ربما. ولكن المؤكد أن حال الكرة الأرضية في أيام تشيخوف كانت أفضل بكثير مما هي عليه اليوم. 

وكوبنهاغن التي تعيش بروح التاريخ المتناثر بأبّهة في أرجائها وكأنه يرفض الرحيل عنها، تراقب وتسمع وتقول بصمت أبلغ من الكلام: انظروا إلي واعرفوا كيف تبقى المدن جميلة رغم أنف التكنولوجيا التي تحوّلت نقمة عندما شط خيال الإنسان العلمي وظن أن الأرض التي منحه الخالق نعمة العيش فيها يمكنه أن يعبث بغلافها الجوّي ومائها وهوائها وأشجارها وجبالها وأحشائها...

 إنها كوبنهاغن المدينة الساحرة بجمالها وقصصها الخيالية. ولعلّ إعادة قراءة قصة The little Mermaid «الحورية الصغيرة» التي ألّفها الأديب الدانماركي هانز كريستيان أندرسن تقودنا إلى عالم افتراضي رائع يشبه أعماق البحر الذي عاشت فيه الحورية الصغيرة! فهل قرأها قادة العالم ليفكّروا في أن بطن البحر يحتاج إلى أن يعود إلى سيرته الأولى؟

 ومهما يكن، فإن كوبنهاغن المستلقية على بحر البلطيق تحافظ على وجهها الإنساني الذي لا تجرؤ مساحيق العصر على تغيير ملامحه الجميلة، وتغسله بمياه باردة لتقضي على تجاعيد الزمن،  وتجففه بنسائم الشمال الأوروبي الصباحية لتبقى حسناء جميلة تبدأ نهارها مبتسمة لمن يلاقيها.

يعتبر حي نايهافن Nyhavn الأكثر غرابة في كوبنهاغن. فقد كان في القرن السابع عشر حوضاً يسمح للمراكب بالوصول إلى الساحة الملكية. وراهناً تخبئ المراكب الشراعية والبيوت الملوّنة تاريخ حي راقٍ يحضن عدداً من البوتيكات ومقاهي الرصيف التي يستمتع روّادها بأمواج بحر البلطيق وهي تتلاعب بالمراكب واليخوت، ويشاهدون مجسّم الحورية الحسناء الوقف على صخرة عند مدخل المرفأ تنتظر أميرها القادم من اليابسة. وتُعَدّ الحورية الصغيرة رمز كوبنهاغن، وقد صنع المجسّم النحات الدانمركي إدوارد أريكسن بناء على طلب  كارل جاكوبسون تكريماً للأديب هانس كريستيان أندرسن الذي نالت قصصه الخاصة بالأطفال شهرة عالمية. والمفارقة أن هذا التمثال سُرق مراراً، وفي كل مرة يعاد إلى الصخرة الواقف عليها. ربما السارق كان طفلاً أراد أن يحتفظ بحوريته الصغيرة، ليكتشف أنها مجرّد منحوتة برونزية شُغلت بإتقان.

حديقة تيفولي
يعتبر متنزه تيفولي ثاني أقدم متنزه ترفيهي في العالم بعد متنزه ديرهافسباكن في كلامبورغ المجاورة. يعود تاريخه إلى عام ١٨٤٣ عندما طلب ملك الدانمارك كريستيان الثامن من المهندس جورج كارستنسين تنفيذ متنزّه. لقد أراد ملك ذلك الزمن أن يجعل لأهل كوبنهاغن متنفساً يمضون فيه ساعات فراغهم، وفي الوقت نفسه يبعدهم عن السياسة، فقد كان يؤمن بالمقولة الرومانية التي تقول: «عندما يشعر الشعب بمتعة الحياة ينسى السياسة». وربما  كان إصراره على أن يكون المكان متنزّهاً يستحضر قصص الأطفال الخيالية أساسه أن يعيش الزائر في عالم افتراضي حيث كل شيء جميل وهادئ، بعيداً عن فذلكة السياسة والسياسيين.

فكل ركن فيه يأخذ زائره إلى مدينة خيالية. هنا سحر الشرق الأقصى بألوانه وزخرفاته التي تجسدت في حديقة يابانية مستلقية على بحيرة صناعية، يجاورها برج لهيكل صيني، وفي المسرح الإيمائي وجوه مقنّعة لا تخرج منها الكلمات، ولكن حركة الأجساد أبلغ مما تقوله الأفواه. وفي التاريخ أن الرومان هم أول من ابتدع المسرح الإيمائي لينتقدوا الكهنة، لكن المسرح هنا وحكاياته مستوحاة من سحر الصين. وفي قصر ألف ليلة وليلة حكاية الملك شهريار والأميرة شهرزاد وقصصها التي لا تنتهي، لتتسرب إلى أنف الزائر ومن ثم معدته روائح الطعام المغربي الحرّيفة تنبعث من مطعم نيمب، وما تكاد الشمس تعلن بخيوطها الذهبية انتهاء النهار، تتألق خطوط فضية تنثرها الأضواء لتتحوّل الحديقة إلى مهرجان أنوار تنبثق من كل الزوايا محتفية بزوارها الذين لا يغادرونها إلا عند ساعات الفجر الأولى.

متنزّه ليغو- لاند
هل تخيّلت أن تتحوّل عملاقاً  يتجوّل بين أروقة مدينة من الآجر! هذا ما يحصل لك في متنزّه ليغو لاند، الذي شيّد بـ ٤٥ مليون آجرّة شكّلت مدناً ومعالم تاريخية من كل أنحاء العالم ابتكرتها بدقة أيدي فنانين شغوفين. يغص المتنزّه بالأطفال برفقة أهاليهم، تبدو الدهشة في عيونهم وهم يراقبون مدناً أبنيتها أصغر منهم حجماً. ربما يتمنون في قرارتهم أن يحملوا بعضها إلى غرفهم، أو أن يحصلوا على العاب تشبهها!

في شبه جزيرة هولمن مبنى الأوبرا، وقد بناه المهندس المعماري جورن أوتزون، وهو المهندس نفسه الذي بنى أوبرا سيدني. وفي مقابل الأوبرا يقع قصر أمالينبورغ الذي تعيش فيه العائلة المالكة، ويتألف من أربعة مبانٍ يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر، يضم أحدها متحفاً يروي تاريخ العائلة المالكة الدانماركية، ومجوهرات أصحاب العرش.

والمكتبة العامة ليست مكتبة تقليدية بل هي تحفة فنية شيّدت على نمط الفن الدانماركي المعماري، مبنية من الغرانيت اللامع الأسود ويطلق عليها سكان كوبنهاغن «الماسة السوداء». وتشكّل المكتبة العامة ملحقاً للمكتبة الملكية وتضم أصول منسوخات كتبها عظماء الدانمارك أمثال أندرسن وكيركيجارد وكارن بليكسن ونيل بويير وغيرهم.

وبعد الزيارة التاريخية لا بد لزائر كوبنهاغن أن ينعم بالتسوّق في أوستربرو الذي يضم شارعي أوستربروغاد ونوردر فريهانيسغاد اللذين يعتبران فردوس التسوّق، وكذلك الشوارع الصغير المتفرّعة منهما التي تتجاور فيها بوتيكات لأهم دور الأزياء العالمية تجاور متاجر تعرض التذكارات. بينما يشكّل شارع نوريبرو وجه كوبنهاغن الكوزموبوليتاني حيث تحتشد الجموع من كل أنحاء العالم والبوتيكات والمقاهي التي تقدّم المطبخ العالمي.

ليس أجمل من أن يزور الإنسان مدنًا تحضن في ثنايا أروقتها كل معالم الجمال الطبيعي والإنساني، فيعيش أيامًا من الرخاء لا حدود له سوى الزمن الأرضي الذي يوقظنا من أجمل لحظاته، ربما لنخزّن في ذاكرتنا صورًا انفلتت من قبضته. وكوبنهاغن مدينة القصص الخيالية تنبض جمالاً وتتنفس فرحاً لا يخضع لحسابات الزمن وأوهامه.

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078