فرانكفورت مدينة غوته
ألمانيا. هذه البلاد التي تعرفت إليها خلال دراستي الجامعية عبر فلاسفتها، يوهان غوتيه ولودفيك بوخنر وفرديريك نيتشيه وسيرن كيركيغارد وغيرهم ممن أثروا في تشكيل هويتي الفكرية، وأخذتني موسيقى بيتهوفن الكلاسيكية إلى عالم مخملي يختلط فيه صدى حفيف فساتين كونتيسات ودوقات يهرولن لحضور عرض موسيقي في إحدى دور أوبرا عصر النهضة، ونبّهتني موسيقى التكنو التي انطلقت على وقع سقوط جدار برلين إلى بزوغ عالم جديد بدأ بابتلاع العقد الأخير للقرن العشرين الذي لم يعد فيه مكان لشيوعية كارل ماركس. أما أخوتي الذين اتخذوها موطنهم الثاني، ووالدتي التي لا تنفك تقول عنها إنها من أجمل البلدان الأوروبية التي زارتها، فقد زادوا فضولي للتعرف إليها. كل هذه الأفكار انبثقت من لاوعيي الثقافي والعائلي، عندما اتصل بي جان بيار منظّم الرحلة ليقول لي هل ترغبين في زيارة ألمانيا! ومحطتي الأولى كانت فرانكفورت.
كانت رحلة إلى فرانكفورت طويلة... . لكن تجربة التحليق في الفضاء عبر طيران الاتحاد زادت مغامرة السفر متعة.
حطت الطائرة على مدرج مطار فرانكفورت وتوجهنا إلى بوابة عبور العالم الألماني نحو فندق ذا ويستن The Westin Grand Frankfurt.
سيراً على الأقدام إلى ساحة رومربيرغ القريبة من الفندق
الطريق إلى الساحة مرصوفة بالحجارة والمتاجر والبوتيكات مقفلة، لكن يبدو أن الناس قرروا أن يعيشوا الوجه الآخر لفرانكفورت خصوصاً في شهر تشرين الأول/ أوكتوبر الذي يبدأ فيه معرض فرانكفورت للكتاب فتجد فيها الناس من جميع الألسن والعرقيات حوّلوا فرانكفورت إلى مدينة عالمية بكل ما للكلمة من معنى.
وصلنا إلى ساحة روميربورغ التي تحلقت حولها الأبنية المتلاصقة ذات الواجهات التي صممت على النمط النيو قوطي. لم نتوقف كثيراً في الساحة بل توجهنا إلى أحد الأروقة المتفرعة منها حيث يوجد مطعم «شفارتزر ستيرن» وهو أحد المطاعم التقليدية في فرانكفورت. توالت علينا الأطباق، وبصراحة لم أكن أتوقع أن يكون المطبخ الألماني لذيذاً إلى هذه الدرجة، بدءاً من المقبلات انتهاء بالحلوى.
جولة في أحضان فرانكفورت في الحافلة
كانت شوارع المدينة مكتظة بالناس. عبرنا جسوراً عدة تعوم فوق نهر الماين الذي يخترق المدينة ويقسمها قسمين. بدت لي البيوت والفنادق المنتشرة على ضفتي النهر لوحة زيتية تختلط فيها الهندسة المعمارية الفريدة والأشجار التي اكتست ألواناً لا يمكن أحداً أن يبتكرها مهما بلغت عبقريته الفنية. توقفت الحافلة عند مدخل قصر ذي حديقة تنتشر فيها المنحوتات الفنية وتعج بالأشجار الوارفة، لكنه لم يكن قصراً بل متحف لايبيغ هاوس الواقع في الضفة الجنوبية لنهر الماين والذي شُيّد عام ١٨٩٦ للبارون هاينريش لآيبيغ ومن ثم أصبح متحفاً يضم منحوتات تعرض لمختلف حقبات التاريخ الإنساني بدءاً من السومريين و الفراعنة مروراً بالإغريق والرومان وصولاً إلى العصر الباروكي وعصر النهضة. يضم المتحف إضافة إلى المنحوتات والأعمال الفنية مقهى.
بعد زيارة المتحف توجهنا إلى منزل ومتحف الأديب الألماني يوهان غوته الذي عرفته من خلال روايتيه «آلام فارتر» و«فاوست». كنت شديدة الحماسة لاكتشاف المنزل الذي ولد فيه هذا الأديب. وخلال رحلة الحماسة هذه كانت فرانكفورت تكشف لي وجوهها، إذ لفتني تجاور الأبنية القديمة ذات الواجهات الخشبية والأسطح ذات القرميد الرمادي الداكن، وناطحات سحاب عصرية تغلّفها واجهات زجاجية تحوّلت إلى لوحات تتماوج على صفحاتها البيوت القديمة والماين والأشجار الوارفة الألوان مما زاد المدينة جمالاً متحركاً، فكأن الحداثة تأبى أن تقزّم التاريخ بعصريتها العملاقة. وتتفرع من الشوارع الحديثة الإسفلتية الشوارع المرصوفة بالحجارة الرمادية تنتشر فيها ساحات عامة تتوسطها ينابيع ماء تعوم فيها منحوتات حجرية وبرونزية تعكس شغف الألمان بالفن وبتشبثهم بتاريخهم.
أخيراً وصلنا إلى متحف غوته ومنزله. فها أنا أخترق حديقة المنزل ثم بابه الرئيسي وأطوف في عالم غوته الحميم، فهنا في هذا الجناح كان يتناول طعامه، وفي ذاك الجناح كان يطالع، وهذه غرفة شقيقته، وهنا مكتب والده. تعرّض البيت والمتحف للقصف الجوي خلال الحرب العالمية الثانية وأعيد ترميمهما بين عامي ١٩٤٧ و ١٩٥١ ليعودا إلى سيرتهما الأولى كما أرادهما والد غوته.
انتهت الجولة في المنزل والمتحف وتوجهنا إلى ساحة رومبيرغ التي عبرناها في الليلة الماضية وكانت مزدحمة بالمشاة وبروّاد مقاهي الرصيف المتحلقة حولها. أما أطرافها انتشرت فيها مواقف الدراجات الهوائية. هذه الساحة تعرضت للدمار خلال الحرب العالمية الثانية، وقد أعيد ترميمها كما كانت عليه في القرن التاسع عشر، إذ وجد المهندسون أن الهندسة المعمارية التي درجت في ستينات القرن الماضي وسبعيناته لا تنسجم مع البعد التاريخي لهذه الساحة وروح النوستالجيا التي يحملها الألمان في جعبتهم الثقافية، فقُرر تشييد الأبنية على النمط نيو القوطي. يتوسط الساحة نبع العدالة الذي بني عام ١٥٤٣، ويقف في مقابلها مبنى البلدية وكنيسة نيكولايريتش ذات النمط القوطي التي تعود إلى القرن الثالث عشر والتي أعيد ترميمها عام ١٩٥١.
التوجه إلى مدينة بادن- بادن
للمرة الأخيرة حاولت أن ألتقط الصور، فالفندق قريب من السوق التجاري حيث تنتشر بوتيكات لأهم دور الأزياء العالمية،
ودّعت فرانكفورت وأنا أردد قول غوته : «لو استمر ظهور قوس قزح ربع ساعة فإننا لن ننظر إليه». وهكذا كانت حالي مع فرانكفورت، فعلاقتي بها تشبه ظهور قوس قزح الخاطف. ورغم تآمر الوقت علي فإنني رصدت بعضاً من تفاصيلها وأسرارها علني في الزيارة الثانية أكتشف الأعظم من خفاياها. ورحت أسأل نفسي هل ستكون زيارتي لـ بادن- بادن قوس قزحية!
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024