تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

فولفسبورغ تنطق سحرًا

عندما دُعيت لزيارة مدينة فولفسبورغ Wolfsburg الألمانية خلال مهرجان موفمنتوس غمرتني السعادة لأنني سأعود إلى ألمانيا ومدنها التي تشبه مدن الخيال الافتراضية حيث كل شيء ينطق جمالاً يقودني، وبإرادتي، إلى متاهة من الموسيقى والأفكار الفلسفية والاختراعات التكنولوجية، فأطلق العنان لذاكرتي لتخزن الصور بتفاصيلها الدقيقة التي استحضرها في كل مرّة أحِنُّ إلى فسحة في مدينة خيالية.

أربع ساعات وعشر دقائق المسافة الزمنية بين بيروت وفرانكفورت التي تعرّفت إليها قبل شهور، ولكن هذه المرّة لن أزورها بل ستكون نقطة العبور التي أنطلق منها إلى مطار هانوفر وأحلّق في الفضاء الألماني مدة ساعة ومن ثم ألى فولفسبورغ.


«ها قد وصلنا إلى فولفسبورغ» قال السائق، وأضاف بلهجة يغمرها الفخر لا تزال معالم الاحتفال واضحة  لأن فريق فولفسبورغ لكرة القدم فاز على فريق بايرن ميونخ العريق وحزنا كأس البطولة الألمانية، ويوم الأحد كان يوم الاحتفال العظيم». بدورنا هنأناه على الفوز. بالفعل إنها مدينة الفولكس فاغن بامتياز، فكيفما جالت عيناي أجد سيارات الفولكسفاغن بكل أنماطها.

ففولفسبورغ لم تكن سوى قرية صغيرة تضم قصرًا وحيدًا يعود إلى عصر النهضة يقع في حي فالرشليبن، عندما شُيّد فيها مصنع الفولكسفاغن في ١ تموز/ يوليو عام ١٩٣٨ وظهرت للمرة الأولى في تاريخ السيارات سيارة البيتل أو الكوكسينيل. كان المصنع هدف طائرات الحلفاء الحربية خلال الحرب العالمية الثانية فدمرت ثلثيه، وبعد الحرب سُميت المدينة رسميًا فولفسبورغ وارتبط اسمها بالفولكسفاغن. استلم إدارة المصنع المايجور الإنكليزي إيفان هيرست وبدءًا من عام ١٩٥٥ انتج المصنع ملايين سيارات البيتل.

ولجت السيارة في مجمع أوتوشتاد الذي تملكه شركة فولكسفاغن . لم أكن أتوقع أن يكون الأوتوشتاد بهذا النمط المعماري الجميل فقد كنت أظن أنه مجمع صناعي يطغى عليه اللون الفولاذي، ولكن ظني لم يكن في محله، فالحدائق الغنّاء منتشرة في المكان ونوافير المياه تتراقص مع النسمات المنعشة وحشود من التلامذة والزائرين يملأون المكان وبحيرات صغيرة تطفو على سطحها الزهور وربوات خضراء  وأبراج زجاجية ترتفع فوق الماء تظهر السيارات على واجهاتها.

زيارة لوسط المدينة

بدأت مغامرتي الألمانية  بزيارة لوسط المدينة . صعدت إلى الجسر المعلّق فوق قنال ميتللاند التي تشطر المدينة نصفين. كان المشهد مهيبًا، فالمدينة تضجّ بالأخضر الذي بدا لي أنه يشارك المياه والبواخر والعبارات وقوارب رياضة الكاياك رقصة الفالز  على وقع موسيقى موتزارت Mozart المتسربة عبر نسائم الصبا الصيفية من برلين التي تقع غرب فولفسبورغ، ولم أستطع أن أفهم هذه المعادلة البيئية إذ كيف لمدينة تصنّع السيارات أن يكون فضاؤها وهواؤها نقيين إلى هذه الدرجة


تابعت سيري على البساط الكهربائي الممتد على طول الجسر، وتوجهت يسارًا إلى مجمع آوت لت ديزاينر. في هذا المجمع حاولت كبح جماح رغبة التسوّق قدر استطاعتي فالأسعار الخيالية كانت تناديني عبر واجهات البوتيكات الأنيقة التي تعرض لأهم دور عرض الأزياء العالمية، ولكن قاومتها بعدم التوقف كثيرًا أمامها وسرت إلى وسط المدينة التجاري.

فهنا تتجاور مقاهي الرصيف بكل أنماطها وأذواقها، والبوتيكات والمتاجر الكبرى التي يستحيل عليك ألا تدخلها وتشتري. إذ أينما جالت عيناك تجد ملصقًا كُتب عليه حسم ٥٠٪ باللون الأحمر لتفاجأ أن هذا الحسم سبقه حسم ليصل ثمن القطعة أحيانًا إلى ١٢ يورو، فتخيل أنه يمكنك الحصول على أهم الماركات العالمية الأصلية وليست المقلّدة بهذا السعر!

المركز الثقافي

ثم سرنا في حدائق أوتوشتاد الغنّاء نحو المركز الثقافي الذي كنت قد مررت به بعد الظهر، وراح أحدهم  يشرح لنا عن سبب وجود كرة معدنية ضخمة متدلية من سقف المركز وهي ترمز إلى الأرض، وبسطت مساحة مستطيلة من الزجاج في أرض المركز  تظهر مجموعة من الكرات ترمز أيضًا للأرض وتهدف إلى تعريف الأطفال الذين يزرون المركز إلى جغرافية البلدان من خلال إبرازها في كل كرة.

أوتوشتاد

في صباح اليوم التالي كنّا على موعد مع مغامرة اكتشاف منطقة أوتوشتاد التي تبلغ مساحتها ٢٩ هكتارًا وتضم صالات عرض بيع الفولكسفاغن ومتاحف ومراكز ثقافية. البداية كان في المركز الثقافي الذي يضم مجموعة مطاعم وأجنحة ترفيهية للأطفال وجناحًا يعرّف عن كيفية صناعة سيارة الفولكسفاغن بكل أنماطها، بدءًا من ابتكار التصميم، ثم تنفيذه.

 

كان الجناح مزدحمًا  بمجموعات مختلفة من التلامذة الذين أتوا من أرجاء ألمانيا إضافة إلى فرق تلامذة أتت من البلاد المحيطة. في هذا المعرض يمكن للزائر تصميم السيارة التي يرغب فيها من خلال شاشات كمبيوتر معلقة على الجدران وما عليك  سوى أن تلمس الباب الذي تريده وتصمم سيارة أحلامك ثم تسجل هذا التصميم باسمك وهذا ما فعلته، ثم مررنا بقسم كيف تصنع السيارة حيث يوجد مجسمات وُضعت في صندوق زجاجي يسمح برؤية اللمسات الأخيرة من صنع السيارة.

بعد ذلك توجّهنا إلى جناح تدريب الأطفال بين الخامسة والحادية عشرة على قيادة السيارات، حيث توجد مجموعة كبيرة من سيارات البيتل الصغيرة التي تناسب حجم الطفل، والهدف من هذا الجناح هو تعليم الطفل قوانين السير ومعاني الإشارات الموجودة على الطرقات، والقوانين الأولية لقيادة السيارة. بعد أن يتدرب الطفل على كل هذا يمنح إجازة قيادة، بالطبع لا يمكنه استخدامها ولكنها تؤكد أنه نجح في اختبار قيادة السيارة.

بعد المركز الثقافي توجهّنا إلى صالة سينما يضمّها معرض السيارات. أطفئت الأنوار وظهرت شاشة عملاقة رافق ظهورها حراك المقاعد التي نجلس عليها في كل الاتجاهات بحسب الصوت وحركة المشاهد، فتلاعبت الشاشة بوعينا وأوهمتنا خلال عشر دقائق بقيادة السيارة بأقصى سرعة، فكدنا نقع في شرك خديعة التكنولوجيا إلى أن توقفت المقاعد والسيارة الوهمية عند حدود واجهة الطبقة العشرين الزجاجية. خرجت من صالة السينما بعد تغلّب الخوف من الاصطدام والسقوط في الهاوية على وعييّ رغم أنني كنت مدركة أنها مجرّد لعبة أوهام. بعد لعبة الأوهام زرنا معرض السيارات لم أجرؤ، على ركوب المصعد البانورامي الذي يركبه عادة الزبائن لاختيار السيارة التي يريدون شراءها بل اكتفيت أن أراقب زملاء الرحلة وهم يخوضون التجربة.

 

في كلوب هاوس بوغارتي تحفة فنية تقف سيارة بوغارتي والتي تعكس إبداع المصمم بكل تفصيل فيها وقد صُنعت من الفضّة الخالصة، وهي ليست للبيع بل للعرض فقط. لا تنتهي الدهشة في عالم أوتوشتاد، ففي زيت هاوس وهو متحف يعرض جميع أنماط سيارة الفولكسفاغن منذ العام الأول لتصنيعها، تعرّفت إلى مبتكري سيارة رولس رايس، وفي الحكاية أن هنري رويس كان مهندسًا مولعًا بالسيارات وشارلز ستيوارت رولز وكان أيضًا مهندسًا التقيا عام ١٩٠٣ في مانشستير، وكان رولز في السابعة والعشرين بينما رويس في الحادية والأربعين، بفضل صديق مشترك لهما يدعى هنري إدموندز أدرك عبقرية المهندسين وأن في إمكانهما تأسيس شركة سيارات ممتازة وبعد أن تناول الأصدقاء الثلاثة الغداء، ركب رويس سيارة ١٠  HPبرفقة رولز الذي أعجب بهذه السيارة وأعلن أنها ما يحلم به، وفي معرض باريس أعلن عن إنشاء شركة رولز رويس وظهرت سيارة الرولز رويس للمرة   الأولى عام ١٩٠٤.

كان المتحف يغص بالكبار والصغار، واللافت في كل جناح توجد منصة عليها مجسمات ميكانيكية يمكن القيام باختبارات عليها فمثلا استوقفتني المنصة الزجاجية حيث يمكن أن أحرّك مجسمات السيارات الصغيرة عبر تحريك مقبض الضوء. ومن ضمن الأجنحة الموجودة في المعرض معرض الصور بالأبيض والأسود، فتتجاور صور عارضات الأزياء بدءًا من عقود القرن العشرين الأولى حتى العقد السادس. كانت الصور رائعة وأصلية رغم أنها لم تتعرض لما يعرف اليوم بالفوتو شوب.

بعد الظهر كنت على موعد مع مغامرتين الأولى أوف رود درايفينغ والثانية سايفتي ترينينغ درايفينغ. يقع نادي مركز أوف داريفينغ تحت الجسر الذي عبرته يوم وصولي إلى فولفسبورغ، كانت الحماسة تملأني فركوب الجيب وتحدي الطرق الوعرة والصعود على الدرج أصبح حقيقة بالنسبة إليه وليس خدعًا سينمائية لفيلم آكشن. فقد علّمني المدرب كيف أتلاعب على الطريق وأفوز على تعرجاتها وتضاريسها المفاجئة ورمالها المتحركة. اجتزت المغامرة بكفاءة مما أثار إعجاب المدرب فقلت له: «عليك أن تقود على طرقات لبنان الجبلية عندها ستعرف من أين أتت مهاراتي».



انتهينا من المغامرة الأولى وتوجّهنا نحو مركز سايفتي ترينينغ درايفينغ، وهو المكان الذي على من يريد أن يحصل على إجازة سوق أن ينجح في اختبارات هذا المركز. وبعد أن أعطانا المدرب إرشادات كيفية التصرّف عند ظهور حواجز مفاجئة أو كوع خطر أو بقعة ماء أثناء القيادة بأقصى سرعة. طلب منّا تطبيق الإرشادات النظرية فعليًا، لا أنكر أنني خفت في البداية ولكن كنت أعرف أنني لن أؤذي نفسي وأن كل شيء مدروس فما علي إلا أن أطلق العنان لهوى السرعة وأسمح للأدرينالين أن يرتفع مستواه. فهذه المرّة السرعة ليست وهمية أو خدعة سينمائية بل مغامرة خطرة وواقعية أنا المتحكمة فيها

في الأمسية الأخيرة في فولفسبورغ كنت على موعد مع الرقص التعبيري لفرقة  Deborah Colker Dance  في مسرح كرافت فيرك  KraftWerk. قطعنا جسرًا خشبيًا معلقًا فوق الماء قادنا  إلى صالة كبيرة يبدو أنها في ما مضى كانت مصنعًا و لا أعرف كيف تحوّلت مسرحًا. كان بهو الانتظار مزدحمًا بالجمهور، وفجأة فرغ المكان عند الساعة الثامنة حين ولجت هذه الحشود إلى مدرجات المسرح. وعم صمت الإنسان وبدأ كلام الموسيقى يتصاعد شيئًا فشيئًا وظهرت على المسرح مجموعة شبان وشابات بدأن يتكلمن لغة الجسد الذي تحركّه إيقاعات الموسيقى وهي تتلاعب مع الأضواء المتحركة وانعكاسات المرايا التي كانت جزءًا من العرض. انقطعت الأنفاس عندما أمسكت إحدى الراقصات خنجرًا تضرب به الطاولة أحيانًا وتهدد به أحيانًا أخرى. ولم أستعد أنفاسي إلا عندما انتهى العرض.

صباح اليوم الأخير أردت أن أتعرّف إلى الفندق الذي نزلت فيه، ويتألف من ١٧٥ غرفة وجناحًا، جاءت هندسته المعمارية تتناسب مع روح مجمع أوتوشتاد فقد طغت عليه البساطة والألوان التي تحاكي طبيعة المكان ليشعر النزيل بالراحة إلى أقصى حدود، فضلاً عند وجود مطاعم عدة إضافة إلى سبا، كما أن نزيل الفندق يستطيع أن يزور كل المراكز الترفيهية والثقافية التي يضمها المجمع مجانًا بمجرد أنه يعرض بطاقة مفتاح غرفته، أما نشاط الأوف رود فهو ليس من ضمن خدمات المجمع، ولكن الحجز عبر الفندق يكون أسرع.

لفتني أن التدخين ممنوع حتى في الأماكن المفتوحة في أوتوشتاد وحين سألت صابرينا عن السبب قالت لي إن بيئة نظيفة خالية من التلوّث هو ما تطمح إليه إدارة أوتوشتاد فضلاً أن هناك آلاف الأطفال والمراهقين يزورون المجمع يوميًا، وهم يدأبون على التحذير من الدخان، لذا قرروا عدم السماح حتى بالتدخين في متنزهات المجمع كي لا يرى التلامذة أعقاب السجائر مرمية فضلاً عن أنها تؤذي البيئة.

تركت فولفسبورغ بعد الظهر متوجهة نحو مطار هانوفر فتكررت المشاهد أمامي ولكن هذه المرة بسرعة وبالاتجاه المعاكس فأنا أخرج منها لا ألج في داخلها. ودّعت فولفسبورغ  لأحلّق في متاهة الفضاء الكونية التي ترميني في كل مرة أدخلها بإرادتي في عالم مدن تشعل الأرض بجمالها.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079