تاريخ 'لن يعيد نفسه'
لم تكن الشمس وقحة، كان التاريخ حاضراً بقوة، بصفته تاريخاً «لن يعيد نفسه»، ماض انتهى ولن يبدأ مجدّداً.
حرّكتني رائحة البرتقال. مشيت إلى كفّين حجريتين متشابكتين تحت شجرة ضخمة.
اقتربت من لوحة نُصبت تحت الكفّين لأقرأ بحروف عربية أعشقها:
أغار عليك من نفسي ومني
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أنّي خبّأتك في عيوني
إلى يوم القيامة ما كفاني
هكذا، في قرطبة التقيت ولّادة بنت المستكفي (البيتان لولادة) وابن زيدون. وما كنت أبحث عنهما. قراءةُ أبياتهما بالحروف العربية محفورة على حجر مناسبةٌ تستأهل دموعي التي لم تفهمها صديقتي الأميركية.
ودّعت ولادة وابن زيدون لأستقبل ابن رشد بدمعتين جديدتين من القلب، وببكاء الذاكرة أيضاً.
ابن رشد بعظمته أمامي. توقّفت طويلاً عنده. ثم أكملت طوافي في المدينة القديمة من دون دليل أو خريطة.
وجدت نفسي في ما يشبه الحصن، في برج أثري عرفت ما إن دخلته أنّه متحف يأخذ زوّاره في رحلة إلى ثقافة بلاد الأندلس.
هذا البرج المسمّى برج «كالاورا»، اعتُبر باب المدينة الذي قد يحميها من أطماع الأعداء، وهو الآن أحد مواقع التراث العالمي، ويقال إن أصل تسمية «كالاورا» يعود إلى العبارة العربية «قلعة الحرية».
هناك ابتسمتُ لابن فرناس وهو يفكّر في الطيران، ودهشت لحماسة الادريسي وخرائطه ومخطوطاته. ثم رأيت أدوات الجرّاح أبو القاسم الزهراوي الذي وضعت كتبه أسس الجراحة في أوروبا حتى عصر النهضة.
تنقّلتُ من زوايا التاريخ وفسحاته العريضة، إلى حقائق تبدو الآن أحلاماً لا يمكن تصديقها. خلال مدة زمنية معيّنة، هنا، غابت الحدود، حدود الكراهية والجهل، هنا تقدّم الزمان (الأندلسي) ثم طار قبل أن يتدحرج إلى الخلف.
هنا لم يكن الآخر آخر، كان مرآة وشريكاً ومحرّضاً على الإبداع.
كانت الأعوام الذهبية قصيرة قياساً بطول الأعوام الدكناء وأعوام الأنفاق الطويلة. ثلاثة قرون فقط هي القرون الذهبية.
وبعد أكثر من ثمانية قرون نعيش مسلّحين باتهامات نتقاذفها، اتهامات عقوباتها الإلغاء، عقولنا تضمر، «تكشّ» ويتقلّص معها الأفق.
مَن يفهمني وأنا أمشي في أزقّة قرطبة؟ مَن يفهمني وأنا أتفحّص سماء إشبيلية بعد الخروج من قصرها المسمّى ببساطة عربية غريبة «القصر»؟
في المدينة القديمة في قرطبة تغيب الساحات والفسحات الواسعة. في الأزقة القديمة التي تشبه «حارات» الشام، البيوت أهمّ من المساحات العامة.
الداخل أهم من الخارج، لذا يمكن للزقاق الضيّق أن ينتهي بجدار. أما البيوت فتضمّ حدائق رائعة غنية بالزهور والأعشاب والأشجار أيضاً، حتى أن أصحاب هذه البيوت ينظّمون مسابقة سنوية في فصل الربيع يجري خلالها انتخاب الحديقة الأجمل بين حدائق بيوت المدينة القديمة.
في يوم مشمس منفلت من «أجندة» الأسابيع المتشابهة، تهت في غابة الأسماء والأرواح التي صنعت ثقافة نعتزّ بها.
جمال الحروف العربية المنقوشة في أحجار التاريخ مؤثّر ومبكٍ خصوصاً الآن في أيام الظلام المعدي. كيف يتقدّم الزمان بنا ونطير نحن به إلى الوراء؟
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024