تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

'صمت الحيوانات'

لن يغيّر قبحَ الواقع وشراسَته التحديقُ إلى الصور أو الهروب منها. والتحديق إلى الصور والانفعال والتعاطف، غضباً أو بكاءً، هو كلّ ما نستطيع فعله.
أرأيتم صورة الأب وهو يقبّل جمجمة ابنه الذي أَسَرَته ثم قتلته قوات الاحتلال الإسرائيلي قبل 35 عاماً؟ أرأيتم صور الأطفال المنتَشَلين جثثاً من تحت أنقاض المباني المهدّمة في حلب وحمص ودمشق؟ هل حدّقتم إلى صور الأطفال السوريين اليتامى في مخيّمات التهجير والشقاء والأفق المسدود في الدول الشقيقة العاجزة؟

الانفعال هو كلّ ما نستطيع تقديمه. الدموع والشهقات، حتى هذه ما عدنا قادرين على ذرفها أو اقتلاعها من صدورنا وحناجرنا.
الإحساس بالعجز أمام هذه الصور قد يرافقه إحساس طبيعي (ربما عند البعض فقط) بالذنب والخوف من المصائر نفسها، سؤال: لماذا هم؟

ثم تُبنى في دواخلنا مناعة لا إرادية ضد الصور أيضاً. لا نبكي، وقد نقلب الصفحة، أو نحرّك «الماوس» صعوداً أو نزولاً هرباً إلى صفحة أخرى.

هكذا نتوق إلى العدم والفراغ والتفاهة، ونتساءل: كيف ننشغل بها هرباً من وحشيتنا، وأيضاً هرباً من عجزنا؟ ونتوق أيضاً إلى الهروب من كذبنا على أنفسنا، ندّعي التحضّر وما زال الأقوياء بيننا يسحقون الأضعف منهم.
ما يحصل في عالمنا وما نشهد عليه، يثبت أن الإنسان كان وما زال قادراً على القتل بوحشية.  

كتب الأكاديمي البريطاني جون غراي عن «التطوّر الإنساني»، وورد بين ما كتبه: «إذا كنا مؤمنين بأننا أصبحنا أكثر تحضّراً، فنحن نعيش في الوهم... البشر حيوانات تصنع الأسلحة بشغف بالقتل».
يرى غراي أيضاً أنّ الإنسان الذي يدّعي حبّ الحرية يبحث دوماً عن الاستبداد الذي يقدّم له رخصاً لتطبيق نزعته إلى الكراهية والعنف.
ويقول غراي أيضاً في كتابه الجديد «صمت الحيوانات» إنّ «الصمت بالنسبة إلى الحيوانات الأخرى حالة طبيعية من الراحة، أما بالنسبة إلى البشر، فهو هروب من الفوضى والاضطراب الداخليين».
ويتساءل: «هل فعلاً تظنّون أنّنا حقّقنا، كبشر، تحوّلاً كبيراً؟ مسارنا التاريخي حروب إثنية ودينية وصراعات على الثروات والموارد الطبيعية ومعاهدات سرّيّة تفرض سياسات القوّة».
أهمّ ما يقوله جون غراي هو أنّ التقدّم الإنساني الذي لمسناه، من خلال الحريات الدينية (في العالم الغربي) والمساواة العرقية وغيرهما، كلّها يمكن أن نلغيها، «نحبّ أن نقنع أنفسنا بأننا لن نرجع إلى الوراء، لكننا نرجع إلى الوراء، هذا ما نفعله دوماً».

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077