تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

'عزيزة'

 حلمتُ بأنها ما زالت على قيد الحياة، وربما لا تزال في مكان ما على هذه الأرض. لم أرَها منذ أكثر من اثني عشر عاماً.
كانت تطلّ علينا بين حين وآخر، تزور أمي في المنزل القديم وتسألها إذا كانت تحتاج إلى مساعدة في ترتيب البيت أو إلى أن تطهو لها صنفاً من أصناف الطعام يصعب طهوه.
أذكرها دوماً مرتّبة وأنيقة. وأذكر أنها أتقنت الفرنسية وطلبت مني أن أهدي إليها أحد دواوين نزار قباني.
ما طرحت عليها أسئلتي الفضولية كلها. كنت صغيرة في السن ولم تدهشني حقائق بسيطة أو وجوه تضفي على أيامي الإحساس بأنني أعيش أحداث رواية.
وربما أحببت الغموض الذي ارتبط بصورتها في مخيّلتي وبكلامها الجديد دوماً.

اسمها عزيزة... وتخفي وجهها خلف نظارة سوداء وجسمها داخل فساتين واسعة. رافقها دوماً كلب صغير أبيض.
أذكر أنّني سألتها عن الكلب. قالت لي إنه لعائلة كانت تعمل لديها قبل أن يسافر أفرادها جميعهم إلى فرنسا وترث الكلب منهم.
«كلب لطيف»، كانت تقول وتبتسم عيناها الضيّقتان من خلف النظارة المؤطّرة بلون أسود يمتدّ نحو شعرها المصبوغ والمغطّى نصفه بغطاء ملوّن أو مخطّط أو مزيّن برقط كبيرة الحجم. 

كانت عزيزة تكره الرجال، وربما قررت أن تكرههم بعد هروب زوجها الثالث.

ما عرفت عزيزة الأمومة وأظنّها أحبّت وحدتها. أضحكني كلامها على الرجال. في رأسي صورتها وهي ترمي النظارة على الطاولة في المطبخ وتغمض عينيها بعد أن ترفع رأسها إلى فوق وتبتلع كلمات تخرج منها سريعاً.
وحين أطلب منها أن تعيد ما قالته ولم أستطع فهمه، ترفض. «رجالي لا يستأهلون أن تستمعي إلى أخبارهم».
تصمت ثم تضيف: «أخبرك قصة زوجي الأول كمال النجّار في زيارتي المقبلة». تتدلّى من كتفها حقيبة كبيرة تكاد تلامس قدميها. تحرص على أن تفتح باب الشقة بهدوء وتمضي.

توقفت عزيزة فجأة عن زيارة أمي. حاولت الاتصال بها. قيل إنها عادت إلى الإسكندرية التي أبصرت فيها النور. وثمة مَن قال إنها سافرت مع زوجة أحد السفراء الأوروبيين. اختفت عزيزة، لكنني ما نسيتها.
أحسّ دوماً بأنني سأفاجأ برؤيتها في شوارع بيروت وأتخيّل دهشتها برؤية ولديّ. كانت تدعو لي بأن أحاط دوماً بمَن يحبونني، وتحذّرني من الرجال الذين لا يعرفون أن يحبوا.
فأضحك لطرافة «حكمتها» المتعلّقة دوماً بالغرام. «أكره الرجال، لكنني أحب الحب» قالت لي عزيزة.
أحاول أن أحزر كم أصبح عمرها الآن؟ وقد أحسّت دوماً بأن ساعتها اقتربت: «أظنني أموت» كانت تقول. ثم تحكي حلماً ارتدت فيه فستاناً أبيض قبل أن تجد نفسها في حديقة من نور. عشقت عزيزة لغة الأحلام. 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077