تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

'الحكواتية'

هربت جدّتها ابنة الشيخ من القرية. لم يكشف أحد لها هذا السرّ إلا مصادفة بعدما أصبحت في العشرين. سمعت عمّتها التي مرضت بالثرثرة بسبب أعصابها المنهارة، تحكي عن زواج أمّها الأوّل وعن جرأتها التي لم يفزع منها والدها.
اهتمّ فقط بأن يصبح زوجها الثاني. لم يهمّه شبح الزوج الأول الذي اختفى. ولم يؤثر هذا الاختفاء في كبرياء الزوجة.
أرادت فقط أن تنهيَ الموضوع بنفسها. تبحث هي عنه. لن يبحث عنه أي مخلوق آخر. بعدما مّر عامان على غيابه بدأت التخطيط لرحلتها، رحلة البحث عنه. فقيل إنها هربت ولن تعود.

تجيد عمّتها الثرثرة. تعرف كيف تحكي الحكاية ومتى تتوقّف عن الحكي لتجذب انتباه المنصتين إليها. «الحكواتية» سمّتها، وكلّما كبرت في السنّ أبدعت في قصّ الحكايات وربما أيضاً في نسجها.

بعدما أنهت عمّتها الحكاية، سارعت إلى سؤالها:

- أي زواج أوّل؟

لم يأتها الجواب. لكنّ الفكرة أسعدتها. ما زالت جدّتها تفاجئها، وكانت تفاجئها بمواقفها المتحرّرة حين حاربت كي تسافر حفيدتها الأولى لتكمل تعليمها في الخارج. تعرف أنّ جدّتها كانت مثقّفة بالنسبة إلى بنات جيلها.
كانت تقرأ الشعر وتنظم القصائد، وتغادر مرتين في العام في رحلات دينية لا يمكن أن يمنعها أحد من القيام بها.

هذه الأيام تعود إليها جدّتها الراحلة في المنامات. صحت في منتصف الليل لتكتب الحلم. للمرة الأولى تتذكّر الحلم الغريب، تتذكّر أشكال الحروف فتخطّها على الورقة لتقرأها وتركّب معانيها.
ظهرت لها جدّتها في الحلم صبيةً عنيدةً قرّرت أن تترك أهلها للبحث عن زوجها الأول بعدما غادر القرية ولم يعد. في الطريق تتذكّر كلمات والدها:

- «جعلك حسين روحاً تائهة...» وحسين كان اسم زوجها الأول.

تتذكّر كلمات والدها وهي في منتصف الرحلة. هي فعلاً روح تائهة، تحاول الوصول إلى المكان الذي اختارته والبعيد تماماً عن سجن المجتمع. لن تتجمّد في انتظار الزوج. ستبحث عنه وإذا لم تجده، ستجد نفسها.
هذا التيه تعشقه، وتعشق الرحلة. لم تستسلم حين اعترفت لنفسها بالخوف. هي ثوان سريعة، ثواني الضعف التي تجعلها تدور في دوّامة ثم تصحو أقوى.

عرفت أن رحلتها هذه هي رحلة التحوّل في حياتها. لا شيء يوقفها الآن. لا توقفها وجوه الأولاد الثلاثة الذين أرادت أن يكونوا أولادهما ولم يكن لها ما أرادت، ولا النار التي تشتعل فجأة في قلبها وهي تغنّي أسماءهم التي اتفقا عليها.
كأنّها باستكمال الرحلة تنتزع حريتها. كانت رحلة ضرورية، عادت بعدها إلى القرية جاهزة لمواجهة القيل والقال ولاحتمالات حياة جديدة.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077