تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

حبال

أكملت القراءة. كيف لم تبصر حين فتحت عينيها واسعتين لتفاصيل الحياة كلّها. وما هي تفاصيل الحياة بالنسبة إليها؟ أن يحبّها الجميع؟ أن يعلنوا أنّها مهذّبة ولطيفة ومروّضة أيضاً؟ أن تبتسم للجيران ويبتسموا لها؟ ألا تُغضبَ أحداً خوفاً من ضميرها؟ أن تظهر دوماً في المظهر اللائق؟ لائق بالنسبة إلى مَن؟ وما معنى اللياقة أصلاً؟ ومَن هم هؤلاء الذين تعتبرهم  من تفاصيل الحياة؟ الآن حين قررت ألا تبالي «بتفاصيل الحياة» التي أرادتها دوماً كاملةً ناجحةً رائعةً دقيقةً متناغمةً، أبصرت.
ما عادت تريد أن تكون الشابّة الراغبة في إنجاز كل شيء على أكمل وجه. تريد أن تكون فوضوية وضائعة، ألا تخطّط أبداً. كلّ ما خطّطت له انفجر في وجهها. والآن أبصرت. أبصرت بعد الانفجار. اعتزلت الحياة وتفاصيلها ورمت نفسها في بحر الكتب.
تفكّك الحروف، فتضيء لها الحروفُ العالمَ. يشعّ منها نور غريب. أين كانت تلك الحروف من قبل؟ وأين اختبأت معانيها؟ لقد كانت فعلاً جاهلة، ما الذي يجري؟ ما الذي يدفئ قلبها هكذا؟ تقرأ مستمتعةً بالحزن.
ما تقرأه حزين وهي مستمتعة به. تقرأ على مهل، من دون أن تبعد الكتاب عن وجهها تلك المسافة المطلوبة كي تكون الكلمات واضحة. تحضن الكتاب بين كفّيها وتقرأ لتنسى. ترتمي في الكلمات، وتُغرق نفسها في المعاني. تقرأ بصوت عالٍ، فليسمعها العالم كلّه.
أخيراً قبلت بأنّها هنا، على هذه الأرض، وأنّ الخيوط تحرّكها. لا يمكنها أن تغيّر قوانين اللعبة، فلتقبل بها، هي هنا الآن، في المكان نفسه منذ ولدت، معلّقة بالحبال نفسها. تسبح، مع الحبال، في فضاء أيام تتكرّر.

غياب
كان الجسم هنا واختفى. كانت هنا أيضاً الابتسامة حين تعبّر الروح عن ذاتها. كان الغضب حيّاً ولم يبق منه شيء. كان الجسم هنا واختفى. بالنسبة إلى مَن يعرفونه جيداً، يعرفونه أكثر منها. اختفى الجسم وبقيت صوره في الذاكرة، بقي صدى الصوت أو الصوت نفسه، ومعاني الكلمات.
المعاني تبقى، تتشبّث بالحياة، تتمسّك بالهواء وتتنكّر بأشكال مختلفة، فتجد مكانها دوماً بين الأحياء وتبقى. المعاني ببساطة لا تموت.
أما هي فلم تعرف صاحب الجسم المختفي جيداً، جمعتها به مشاهد قليلة، ووعود بالصداقة. كان الجسم هنا واختفى.
لمَن يعرفونه جيداً يزداد الشوق إلى الجسم مع مرور الأيام. الوقت لا يشفي. أما هي، فتتأسّف على أنّها اكتشفته في المرحلة الأخيرة.
كان الجسم هنا واختفى. لهؤلاء الذين يعرفونه جيداً، حلّت محلّ الجسم برودة الرخام، كان جسماً وأصبح حجراً وذكريات. هذا هو الغياب. 

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079