تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

كلام العاصفة

أمطرت بعنف. يطبع العنف كلّ ما يحصل هنا. هنا يولد الكره ليبقى عنيفاً. الحب أيضاً يعيش عنيفاً، والحرب تبدأ وتستمرّ وتنتهي عنيفة. الفراق هنا عنيف أيضاً، يكسر الأظهر والقلوب.

تحبّ جسمها وهيئتها في المعطف الأسود. تؤطّر ياقته العالية خيوط مطرّزة تنحدر أيضاً نحو حاشيته. تنظر إلى صورها. لمَ يطلّ من عينيها كلّ هذا الأسى؟ في نظرتها ما يوحي دوماً أنّها تحدّق إلى الأيام المقبلة أو إلى أبعد نقطة يمكن أن تراها.
في الصورة تلصق كفّيها وظهرها بالباب، يطوّق إصبعها الوسطى خاتم ضخم بيضوي الشكل، وتظهر علامات قلق أعوامها الثلاثين على وجهها المربّع.
هذه الصور التُقطت لها في لندن. تبدو فيها أنضج وأجمل. لو أنّها بقيت هناك.

لم تعش خارج بيروت، لم تغادر البلد إلا في زيارات سريعة. تعرف تماماً أن حياتها محدودة وغبية. وتقول إن الخروج من هنا ضروري.
هو خروج إلى العالم، إلى الحاضر الحقيقي. وتعرف أيضاً أنّها تمنح الكلمات أهمية تفوق أهميتها الحقيقية. فهي تصدّق أن التعامل مع الكلمات أمر مقدّس.

تقرأ الآن بعنف. قهرها خبر موت مجنون شارع "جبران خليل جبران"، القريب من الشارع الذي تعيش فيه. مات من عنف العاصفة وبردها. كانت تراه فتهرب منه.
تتعاطف مع صمته، مع لحيته الرمادية الطويلة وطوله المخيف وثيابه الرثّة، لكنّها تخاف منه. فتغيّر وجهة تحرّكها كي لا تمرّ بقربه.
وكان هو "المجنون" الهادئ الذي لا يصرخ ولا يقلّد أصوات الآخرين أو أصوات القذائف والرصاص.
كلّ ما يفعله أنّه يبتسم قليلاً ويهيم في الشارعين، ميشال شيحا حيث قتل عمّها اليساري برصاصة في خصره في نهاية السبعينات، وشارع جبران خليل جبران.

قهرها أيضاً توقها الشديد إلى أن تكون امرأة أخرى، امرأة تعرفها، تعرف عقلها ومخيّلتها لأنّها تقرأ كتبها، وتعرف شكلها لأنّها تغار من وجهها.
ليست تلك المرأة جميلة بالمفهوم الكلاسيكي للجمال، لكن في وجهها عمقاً يمكن لمسه والإحساس به.
تريد أن تشبه حياتُها حياةَ تلك المرأة، فتبكي مثل طفلة صغيرة لأنّها بعيدة عن تحقيق ما تريده.
تريد أن تكون لها الكاريزما التي تتمتع الكاتبة بها. من أين تأتي "المحتالة" بكل هذه الشخصيات؟ كلام العاصفة صادق. تسمّيه كلام العاصفة، لأنّ البقاء تحت رحمة المطر وعنفه حملها إلى مواجهة الذات هذه.
أيّ شخصيات يمكن أن تتخيّلها وحياتها فارغة من هؤلاء الذين يفترض أن يحبّوها، من الأصدقاء الحقيقيين والوهميين أيضاً؟ تريد أن تزدحم الوجوه في كلماتها. تخونها الكلمات دوماً، تحمّسها على الحياة ثم تتركها وحيدة في مواجهاتها.
تمطر بعنف، فتقرأ بعنف ينسيها عنف الكراهية يقتل كلّ ما ومَن يستطيع قتله،أجسام الأطفال وأحلام أهاليهم وفكرة الوطن وحقوق العيش الكريم والحرية والكرامة... أتمحو عودة الطبيعة إلى رشدها كلامَ العاصفة؟

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077