مظلّتان في نزهة
هي منظّمة رغم قلقها، وتتعامل مع الحياة بجدّيّة مرضية. وهو يبحث عن الانتقام من هؤلاء الذين لا يحترمون الناس في الشوارع. ويريد أيضاً أن ينتقم من الناس في الشوارع.
ينقل إليها نقمته. تبقى في الداخل، نقمتها هي. تبتلع الملاحظات أو تبقيها لنفسها، وهو ينصحها بأن تغضب، "الغضب صحيّ، صدقّيني".
فجأة، أمطرت بجنون. مع البرقة الأولى، فكرت فيه. وقبل أن تركض إلى هاتفها لتطبع رسالتها إليه، وصلتها منه رسالة. "أيمكن أن تلاقيني مقابل محلّ الزهور؟ كم يلزمك من الوقت؟"
"أوكي، عشر دقائق".
مَن يخرج الآن تحت سماء تغدق ماءها؟ يخيّل للواقف خلف زجاج النوافذ وواجهات الشرفات أن الأمطار حبّات صلبة، تتساقط على البيوت والأجسام والأشياء. في لحظات مثل هذه تتأكد الصبية من أن للأوراح أصدقاء.
لا تسمّي حباً ما تحسّ به، ما عادت أصلاً تؤمن بالحبّ، تؤمن بالغضب المشترك، وبالقرف المشترك، بانجذابها إلى ما لا تعرف تحديده في النظرة. ثم تقنع نفسها بأنّ صوته هو سبب انجذابها إليه، أو حركات يديه، ربما.
ينتظرها تحت مظلّته السوداء. ابتسما حين التقت المظلّتان. ثم انطلقا، مع المظلّتين، يمشيان من دون توقّف. المطر لا يتوقف أيضاً. الشوارع مستسلمة لهجوم الطبيعة، ومشتاقة لدعسات المتأخرين على مواعيدهم. يتمشّيان على مهل. ولا يفكران في الكلمات التي ينطقان بها.
هو: لا أعرف ما أريد. أريد كلّ شيء.
هي: أراك في الوجوه كلّها.أركّب وجهك فوق الوجوه كلّها.
دخلا المكتبة قبل المقهى.
هو: لنختر الكتب كلّها التي تسرد تاريخ لبنان.
هي: أي تاريخ تسرد؟ أي تاريخ كُتب؟
هو: كيف نعيش من دون الحاجة إلى معرفة الماضي لأجل تجاوزه؟
يدور بينهما حوار آخر. لا علاقة له بما يقولانه. وفي مقهى "آرا" ثمة من يتأمّل المكان الفارغ الذي لم يشغلاه بعد. وصلا إلى المقهى، وتوجها مباشرة إلى الطاولة القريبة من الواجهة الزجاجية، القريبة من الشارع أيضاً.
على الطاولة، في وسطها، وضعت النادلة قطعة من الحلوى قُسمت نصفين. الشوكة تتكئ على طرف الكوب، الكرسيان بعيدان قليلاً عن الطاولة. رائحتهما هنا. ستتلاشى بعد لحظات. قصة أخرى ستزور الطاولة.
وستكون زيارة أخرى خاطفة للباب المقطّع بزجاج ملوّن. على الجدران المحيطة بهما عُلّقت صور عريضة بالأبيض والأسود، وعند مدخل المقهى إلى اليسار عُلّقت لوحة حفرت عليها ثلاث كلمات: "زقاق آرا غولر".
هي تعشق الساعة المعلّقة على الباب، والعين التي تطلّ عليها من داخل الساعة ومن خلف عقاربها على طريقة لوحات سلفادور دالي. تعشق في المقهى أيضاً زحمة الأغراض التي توحي أنها أشياء حميمة. لا تريد أن يتوقّف المطر.
تريد أن يحتميا مجدداً بالمظلّتين، أن يخفيا حيرتهما والإحساس المستمرّ بالقلق. هذه المرة لن تخجل. حين يعيد التصريح نفسه: "لا أعرف ما أريد"، ستقول له: "أنا أعرف تماماً ما أريد".
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024