خريف سانت بطرسبرغ
أمضيت يومي الأخير في روسيا مع فلاديمير. يقود السيارة السوداء على طرق كلّ ما حولها مغطّى بالأبيض.
يكلّمني بإنكليزية لملمها من ركّاب سيارته الأجانب. يودّ اكتشاف المكان الذي جئت منه، ويودّ أيضاً أن يغني معرفتي بتفاصيل حول كلّ ما يمكن أن يدهشني في مدينته.
نجول في السيارة في سانت بطرسبرغ في يوم خريفي مثلج. أحارب الهواء لأصل إلى باب قصر سان مايكل المعروف أيضاً ب«قصر المهندسين» الشامخ بين نهري «مويكا» و«فانتانكا» والقريب من الحديقة الصيفية.
ثم من القصر الذي أمر برسم أسسه القيصر بول الأول عام 1797، انتقلنا إلى «القصر الشتوي» الذي بُني عام 1762 للقيصرة إليزابيث، والذي أصبح في عهد القيصرة كاثرين الثانية مركز عرض لوحات فنية تهوى القيصرة جمعها من مختلف مدن العالم.
هذا المركز تحوّل إلى متحف «إيرميتاج» Hermitage الضخم، أحد أكبر المتاحف في العالم الذي يعرض عدداً خيالياً من الأعمال الفنية لأشهر الرسامين أمثال ليوناردو دافنشي ورافاييللو وكارافاجيو ورمبرانت وفان غوغ وبيكاسو وغيرهم.
اهتمّ فلاديمير بأن يلمس انبهاري بجمال مدينته بالرغم من مصارعة الطقس البارد.
وجدت نفسي مضطرة لمصارعة الهواء وقسوة الاحتماء من البرد والثلج بعد أن تنطفئ البهجة الطفولية بالغرق في عالم أبيض يشبه عالم القصص البعيدة عن عالم ولدت فيه وعرفته.
لكنّ المدينة التي تفقد ألوانها في الخريف والشتاء ساحرة رغم كل شيء. ففيها التاريخ يطلّ بهيبته على الهاربين منه والباحثين عنه أيضاً.
وهو تاريخ عميق متعدّد الطبقات، مربك أيضاً، يدلّ عليه إرث الإمبراطورية الثري وسعي الثورة والثوار إلى تجريد المدينة من الفخامة المطبوعة بها.
كأنّها فرّغت من تاريخها قبل أن يُعاد إليها. حتى أن المدينة سُلبت اسمها بالقوة ثم أُعيد إليها بما يشبه القوة أيضاً.
من سانت بطرسبرغ إلى بتروغراد إلى لينينغراد المشهورة بحصارها خلال الحرب العالمية الثانية إلى سانت بطرسبرغ مجدّداً.
لقد عادت المدينة التي عاش فيها فيودور دوستويوفسكي وبيتر إليتش تشايكوفسكي إلى معانقة تاريخ ما قبل الثورة البولشفية.
أقرأ التعب في الوجوه التي أراها. وفي الوقت نفسه أستغرب اهتمام بعض الشبان الذين يجيدون التكلّم بالإنكليزية بما يحصل في منطقتنا.
وهو اهتمام يتجاوز المعرفة السطحية بما يجري. ثم أخرج من متجر "التذكارات" حيث تعرّفت إلى هؤلاء الشبان المهتمّين في شكل خاص بما يحدث في مصر، إلى اللون الرمادي مجدداً، اللون الذي يلفّ المدينة في موسم البرد.
يغيب النور الطبيعي هنا. لا نور يضيء الوجوه رغم بياضها. ووحده فلاديمير يمنعني من أن أقرّر أن قسوة الطقس الشتوي في المدينة تنعكس قسوة على وجوه أهلها.
فهو أبداً باسم وجاهز للمسايرة والتحدّث بلطافة وأدب. قبل أن أترجّل من سيارته، دلّني على البارجة "أفرورا" وقال بإنكليزيته الطريفة التي تكملها إشارات يديه: من هنا انطلقت القذائف باتجاه القصر الشتوي معلنة بدء الثورة عام 1917.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024