تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

في 'متحف البراءة'

ما أجمل فكرة زيارة متحف بُني على تفاصيل رواية مشهورة. يصبح المكان الرواية أو جوهرها، يصبح أحد تجلّياتها، أحد صورها وتفاسيرها، يجعلهاأشهرأوسع.
فالرواية كُتبت لتبقى. الرواية لا تموت. تخلّد في متحف لكنّها في الأساس متجاوزة معنى المتحف، فهي تنتصر عليه في قدرتها على البقاء.

الرواية التي زرت أخيراً متحفها هي رواية "متحف البراءة" لصاحب نوبل للآداب (عام 2006) التركي أورهان باموك. افتُتح المتحف في اسطنبول في نيسان/أبريل الماضي. أصرّ الروائي على البحث عن مبنىً يعكس روح الرواية ومغزاها إلى أن اشترى بمبلغ يكاد يساوي المبلغ الذي حصل عليه لفوزه بجائزة نوبل للآداب (نحو 1،5 مليون دولار) مبنىً من أربع طبقات بُني في القرن التاسع عشر في حيّ في قلب اسطنبول. هذا الحيّ كان ولا يزال يسكنه أبناء الطبقة المستورة الذين وجدوا أنفسهم محاصرين في مدينتهم اسطنبول "بالحياة الجديدة" ("الحياة الجديدة" عنوان رواية رائعة لباموك)، الحياة الصاخبة "بأوروبيّتها"، حيث المطاعم التي تقدّم العالم كلّه في أطباقها، والمعارض الفنّية والمراكز الثقافية والفنادق و"البوتيكات" الصغيرة، كلّها تزنّر المكان.

رواية "متحف البراءة" صدرت بلغتها الأولى عام 2008، الرواية الأولى التي تصدر لباموك بعد نوبل، وربما ليست أفضل روايات مبدع "اسمي أحمر"، لكنّها الرواية التي نفّذ عبرها فكرة سكنته خلال اثني عشر عاماً، وهي فكرة تأسيس متحف مبنيٍّ على رواية. وفي المتحف، تغادر تفاصيل الرواية صفحات الكتاب ليلمسها الزوّار، ويحاولون عيشها.
ثم يشعرون بوجود بطلَيْها "كمال" و"فسون" بينهم. تعيد الأشياء التي جمعها باموك بنفسه لمتحفه، بناء الرواية وبناء اسطنبول التي تحكي عنها الرواية، اسطنبول سبعينات القرن الماضي. فيتأمّل الزوّار أعقاب السجائر (أربعة آلاف ومئتين وثلاثة عشر منها في لوحة عريضة تُعرض خلف واجهة من زجاج البلكسي)، وأحمر الشفاه على فناجين القهوة التركية وأقراط الأذنين والفراشات المعلّقة على دبابيس الزينة، وأطباق الطعام، الدولما والكباب وأرغفة الخبز، والوقت حين تمثّله الجماجم، وباريس كلّها في قارورة عطر، واسطنبول الباريسية بالنسبة إلى أثريائها خلال الزمان الذي تدور فيه أحداث الرواية.
فالمتحف الذي يعرض هوس بطل الرواية "كمال" بحبيبته "فسون" (عبر جمع أشيائها في متحف)، يعرض أيضاً زمناً ولّى، محاولاً الإمساك به وسجنه هناك إلى الأبد. المتحف لعبة ذكية تضيع فيها الحدود بين الحقيقي والمتخيّل وتدلّ على جمال تداخلهما. 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077