تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

ولادة ثانية

ولد منذ ثلاثين عاماً. ولد قبل ثلاثة أسابيع من الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. تخبره أمه أنّهم هربوا من بيتهم في بيروت إلى مكان آخر يزنّره الخطر.
كانوا يهربون من الواقع. كأنّ هروبهم وسيلة التعبير الوحيدة عن رفضهم ما يجري. ركبوا السيارة وهربوا، ولا تعرف إلى الآن كيف نجوا من الرحلة الجهنّمية. قالت له أمّه إنها خلال أشهر تمسّكت به، عصرته بين ذراعيها.
لم تتركه خلال أسابيع أو أشهر طويلة. تتفرّج عليه إذا نام، وتحمله ما إن يصحو، كأنّه الحياة التي تتمسّك بها.

والآن يقول إنّه بعد ثلاثين عاماً ولد من جديد. قرّر أنّه سيجرؤ على التفكير في التغيير. يجب أن ينطلق من نقطة ما نحو رفض الحياة التي فُرضت عليه. يحتاج إلى مَن يدعم رفضه من زملائه وأصدقائه.
يقرأ عن محاولات الرفض السابقة، عن أصوات الرفض والمسيرات و«المظاهرات». أصبح  متحمّساً جداً لاستعادة تجارب ماضية.
أيمكن ألا يجد أحد مخرجاً؟ أم مدخلاً؟ "نريد مخرجاً من هذا السواد الذي نعيشه ومدخلاً إلى بناء مكان يمكن أن نسمّيه وطناً. نحن غير المقتنعين بالنظام، ماذا نفعل؟ لن ألتصق بالجدار، لن أقفل فمي، لن أغمض عينيّ.
لن أتخلّى عن حقوقي ولن أنتظر، أنا لن أنتظر. انتظروا أنتم. لا بد أن نبدأ من مكان ما. لا بد أن يظهر بيننا صاحب الرؤيا، صاحب العقل الذي يتقن التخطيط والتفكير الصائب في المستقبل. يجب أن نتحرّر من عقدنا ومن الخوف من الاضطهاد".
يتكلّم أمام مجموعة من أصدقائه بحماسة. بينهم صديق قديم يجلس صامتاً معظم الوقت. ليس واضحاً إذا كان الكلام يزعجه أم يعجبه.
هؤلاء الذين لا تتغيّر تعابير وجوههم يكرههم. لا يفهم هؤلاء الذين لا ينفعلون، وقد يفهم عدم انفعالهم على أنّه وقاحة. لا يمكن ألا يثق بصديقه هذا. يعرفه منذ كانا طفلين في الخامسة، تلميذين في المدرسة البريطانية.
لكنّه صامت هذه الأيام، وشبه غائب، كأنّه لا يوافق على كلام أصدقائه. هو كلام، مجرّد كلام. 

منذ قرر أن يولد من جديد، أصبح دوماً مضطرباً. لا يمكن أن يعود إلى اللامبالاة.
سكنه وسواس الانفعال والمبادرة إلى التغيير، سكنه وسواس التغيير. لا، لن يعود إلى موسيقاه وكتبه ويتظاهر بأنه يعيش في واحة من الحرية...

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079