المتمرّد
بعد أيام يلامس الثلاثين. يبدو له الأمر مخيفاً. كيف لم يتمرّد بعد؟ كيف لا يزال مثل ولد صغير ينتظر أن تحرّكه الظروف وأهله والآخرون؟ ينوي التمرّد على كلّ ما رآه في حياته وقبِل به من دون اقتناع. ينوي المغامرة أيضاً.
ستكون له الحياة التي أرادها. وإذا لم ينتفض على نفسه الآن، فمتى ينتفض عليها؟
يحقّ له التمرّد، ويحقّ له ألا يكتفي بالقراءة عن المتمرّدين على الظلم. يحقّ له أيضاً أن يتمرّد على نفسه.
أيجب أن يكون دوماً عند حسن ظنّ الجميع، جميعهم، هؤلاء الآخرين الذي لا يريد أن يشبههم؟ ومن يشبه هو؟ يعترف بأنه حتى الآن يبدو بلا لون أو رأي أو قضية. كل هذا سيتغيّر.
يريد أن يستعيد تجربة المتحمّسين للتغيير في لبنان خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي. يقرأ عنهم بحماسة. يعيش معهم أحلك اللحظات ومغامراتهم التي تبدو الآن عبثية.
يحترمهم. يجب أن يكسب احترام نفسه. ما الذي فعله جيله؟ ما الذي يفعله؟ مَن لم يهاجروا فُعل ويُفعل بهم. بعضهم ينساق إلى الانقسامات «التاريخية» نفسها، وبعضهم الآخر يقدّر الصمت، ويصمت. وهو يحلم بأن يقرّر خطوات غده، وبألا يقرّرها مجرمو الحروب المتتالية، الساخنة منها والباردة.
يقرأ في كتب المذكّرات عن مغامرات السبعينات، عن الكلام الكثير عن التغيير، عن المظاهرات في الجامعات والمصانع والشوارع، عن الاجتماعات السريّة والعلنية، عن الأحلام المشتركة العابرة للطوائف والطبقات الاجتماعية والتي بقي منها جثث أحلام فقط. لقد حاولوا، وبعضهم كان صادقاً في محاولته.
آمنوا بالتغيير واحترموا أنفسهم وإيمانهم. أخفقوا طبعاً. وأيّ إخفاق؟ لكنّهم اختبروا الإيمان بالتغيير، وهو يحاول أن يُنهض هذا الإيمان من ركامه، من نفوس أجهضت الأمل لأنّها اعتبرته خائناً.
يغيب خلال أيام عن عمله، عن المحلّ الذي استأجره وكلّف موظّفة الاهتمام بتجارته. انسحب لقراءة تجارب «النضال» السابقة.
وهو وفيّ للقراءة حين ينسحب إليها، يعطيها وقته واهتمامه كاملاً. يقرأ ويدوّن ملاحظاته. مطالب المؤمنين بالتغيير في القرن الماضي هي المطالب نفسها التي يردّدها الآن أحياناً بعض المغامرين «بترديد العبارات». هي المطالب نفسها صيغت بالكلمات نفسها.
يكاد يجنّ، يضحك وهو يقرأ عن المرحلة التي سبقت انفجار الحرب اللبنانية عام 1975. ما الذي تغيّر؟
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024