تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

مغامرة

لا يهمّها ما يحصل في الخارج. لا تريد مقاومة الموت الرخيص. ما عادت تهمّها مسألة إهانة ذكائها. كانت تعتبر أنّ الجهلة الأقوياء بجهلهم يهينون ذكاء الأقوياء بمعرفتهم. اتصلت بخطيبها.
سيخرجان رغم الرعب المسيطر على شوارع بيروت. لن تختبئ مثلما فعلت في المرات الماضية، وخلال طفولة كاملة. ستعيش حياتها في شكل طبيعي. لن يمنعها مانع الآن من لقاء خطيبها. يجولان معاً في شوارع مجنونة وخالية من الحياة.
تنظر إليه، وتخاف عليه من شدة خوفه. هي ما عادت تعرف الخوف. ترفع صوت الموسيقى. كيف لا يشفيه من الخوف غرامُه بالموسيقى؟ رغم هوسه بالسياسة وتجنّبه التغزّل بها، لكنّ لقاءها به أسعدها.
يكفيها ما تحسّ به عندما تتفرّج عليه وهو مسترسل في الكلام. أوصلته إلى بيته وعادت إلى البيت لترتاح قبل موعدها.
وعدت صديقتها العجوز بأن تزورها، ولن تخذلها. ارتاحت قليلاً في البيت الهادئ منذ غادره والداها وأخوها لتمضية إجازة في بيتهم الجبلي قبل أن ينفجر المجهول البيروتي. استحمّت، وغيّرت ثيابها استعداداً للزيارة.
وقبل أن تخرج من غرفتها، بحثت عن أقراط أذنين لم تتزيّن بها منذ أعوام وعلّقتها في أذنيها. ثم مسحت شفتيها بأحمر شفاه ناعم.
ذهبت بسيارتها، هذه المرة لم تحاول المشي إلى هناك، ولم تنتظر سيارة أجرة تأخذها إلى مكان موعدها اليومي. لن تظهر أيّ سيارة أجرة.
رفعت صوت الموسيقى في السيارة، ولم تعذّبها زحمة السير أو ضياع الوقت. "لا أحد غير المجانين يخرج الآن من بيته" قالت لها الجارة.

وصلت إلى بناية صديقتها. لم يتغيّر شيء. رنين الجرس نفسه، رائحة البيت نفسها، رائحة نظافة تشبه الدفء، كأنّها مألوفة ومريحة ومهدّئة. تشير مدبّرة المنزل بيدها إلى غرفة المكتب، لمَ ليست صديقتها في غرفتها؟

- ما هذا الجمال كلّه يا "ست"؟ كلّ يوم تزدادين جمالاً.

- عن أي جمال تتحدّثين؟ ولماذا أهتمّ بالجمال؟ أنا وفي هذه السنّ؟

- لمَ لا نخرج اليوم؟ الطقس رائع.

ابتسمت سيّدة المنزل. ابتسمت للمغامرة. لم تغادر البيت منذ شهور طويلة. لم لا تغادره الآن للتجوّل مع الموت في الشوارع؟

- متأكدة أنت؟ يمكنك أن تتحمّليني في الخارج أيضاً؟

- يشرّفني.

ارتدت السيّدة العجوز سترة رمادية فوق كنزتها السوداء. أعلمت مدبّرة المنزل بخروجها، ثم أقنعتها، وهي تقنع نفسها أيضاً، بأنّها يجب أن تخرج غير مبالية بصدمة المدبّرة.

- إذا اتصل ابني، اطلبي منه أن يتصل ليلاً قبل موعد نومي.

ثم التفتت إلى صديقتها الصبيّة وقالت: هذا إذا اتصل.

لا تقبل باستعمال الهاتف النقّال. ترك ابنها هاتفاً صغيراً في البيت لعلّها تغيّر رأيها، لكنّها لم تغيّره. في السيارة بدت مثل طفلة صغيرة. تخرج يدها من النافذة، تفتحها وتغلقها، تسأل عن الموسيقى. تُكثر الأسئلة.

- لا أريد أن أعرف إلى أين ستأخذينني. اتركيها مفاجأة، أو لا تأخذيني إلى مكان معيّن. يمكن أيضاً أن نبقى في السيارة، نجول مع الخوف والموت في الشوارع. وربما تكون هذه جولتي الأخيرة.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077