تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

حوار بين الكلمات

تعيش الأصوات في جسمها. أصوات الماضي، أصوات كلّ الذين أحبّتهم وتركوها. لم تتوقّع أن تقاوم الموت إلى هذه السنّ. لم تقصد مقاومته، لكنّها عاشت عمراً طويلاً وما زالت تعيشه.

تكتب حياتَها أصواتُ الغائبين عنها، تسردها وهي تستمع إليها، مع أن حياتها فارغة، لا يحدث فيها شيء. لا يزورها أحد.
فقط صديقة تصغرها بأربعة وخمسين عاماً. حين تزورها تقرأ لها القصص. عادت لا تقرأ لها الصحف.
لا تريد أن تعرف المزيد عن الدمار  الذي يبدو لها عالمياً، دمار النفوس والأجسام والبيوت والطرق والأفكار والمنطق والعدل، وكلّ ما قرأت عنه وآمنت به خلال أعوام صباها. تخاف لحظة تجهّز نفسها لوداع صديقتها.

- أريد عينيك لأقرأ بهما. أحياناً أحسّ بأنّ القصّة ستتغيّر إذا لم تقرئيها أنت لي. أريد أن أصدّق أن الحياة التي ترسمين لمحات منها في قراءاتك، حقيقية.

- ماذا لو لم تكن حقيقية؟ ألا تكفي متعة السرد؟ ألا تكفي الأفكار المكتوبة؟ أليست هي الحقيقة الباقية أو الوهم الباقي؟ فللحياة الحقيقية صلاحية تنتهي في تاريخ ما. أنا سأسألك الآن:

- ألا تخافين حين تقتربين من هذا التاريخ، تاريخ النهاية؟ تقتربين منه لأنك كبرت أولاً ولأنّك تنتظرينه ثانياً. آسفة إذا جاء كلامي ثقيلاً. لكنّ خوفي من هذا التاريخ، أنا الصبية، أكبر من خوفك منه... لا بأس، لا تجيبي. كيف يمكن أن أتراجع عمّا قلته؟

- كلّ منا يظنّ نفسه بعيداً عن تاريخ انتهاء صلاحيته، لكنّنا جميعاً قريبون منه إلى درجة نجهلها.

- يجب أن أذهب.

- إلى أين؟

أرادت الصبية أن تقول لها إنها ذاهبة إلى مَن تريد أن تقع في غرامه. منذ لحظات فقط لم تفكّر فيه. لم ينطفئ بعد إعجابها به. أجبرت نفسها خلال يوم كامل على عدم التفكير فيه، على التفكير في عدم التفكير فيه، فظهر في حلمها.
واستعادت في الحلم شعورها القديم، سعادتها خلال دقائق يمضيانها معاً معلّقين في اللازمان، منسيَيْن. تنسى نفسها معه، تنسى أدوارها كلّها، وهو قرّر منذ البداية أن يحيا ناسياً نفسه.
التزم بدور واحد في الحياة ولم يطوّره أو يملّه، دور المنفلت من أي مسؤولية، الطائش لأنّه يريد أن يكون طائشاً...

- إلى قصّة جديدة. سأكشف لك سرّاً في لقائنا المقبل. سأحكي لك قصّة حبّ، ما رأيك؟

- أنتظر لقاءنا المقبل. سيكون انتظاراً جديداً، انتظار الاستماع إلى قصّة حبّ. وقبل انتظار قصّة الحبّ، سأكون في انتظارك، لم يبق لي أحد إلا ابني المسافر، وكلّ من عرفتهم وخبّأت وجوههم في أحلامي اختفوا.
ستختفين أنت أيضاً. يحقّ لك أن تختفي، لكن ليس قبل أن تنهي القصّة الأخيرة. لا تتركيني معلّقة بين الكلمات.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077