تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

سيّدة الجبال

«في الطرق بين القرى والبلدات والمدن، تأمّلت السيدة التي أصبحت جدتي، روعة الجبال القرمزية ورفعت رأسها إلى سماء فيروزية تعشقها، ثم غنّت. في هيامها هذا، في ضياعها الهادف، تكتشف نفسها.
من أين أتتها كلّ هذه القوة؟ لا بد أنها شكّت في كل ما آمنت به. شكّت في الحياة نفسها، ولم تود أن تموت من دون أن يُسمع صوتها عالياً، صوتها الذي كتبته، مؤمنةً بالكلمات وبقدرتها على مقاومة الامحاء».

هكذا تخيّلت صديقتي قصّة جدّتها الهاربة الأولى في منطقتها من سيطرة الأب والمجتمع. هكذا سردت قصّة هروب الجدة التي اكتشفتْها بعدما قررت هي نفسها الهروب من سلطة الأب والمجتمع. رسمت صديقتي بالكلمات أحد مشاهد هروب جدّتها، ولوّنته أيضاً.
زارت البلد البعيد الذي ولدت فيه جدّتها وهربت منه في صباها. حملت دفتراً ودوّنت فيه وصفَها كلَّ ما رأته، الطبيعة والبيوت ووجوه الناس. ثم غرقت في كتب تاريخية نوعاً ما، أعادتها إلى الحياة في ذلك البلد قبل مئة عام أو أكثر.
تسلّحت بالدفتر والقلم والكومبيوتر وبولعها بمغامرتها الأدبية وفخرها الحديث بجدّتها.
وكتبت: «وقفت جدتي حيث أقف الآن. تعانق الأشجار المثمرة. بين الأشجار جدول. توقفت للراحة مع مساعدتها ومرافقيها. تعرف أنها ستقع في الأسر في نهاية المطاف، سيجدونها ولن تتراجع، أبداً.
تمازح مساعدتها بشوقها إلى الأرز المطبوخ في بيت أهلها باللحم والمكسّرات والزبيب.
تأتيها المساعدة بالفاكهة المجفّفة واللوز والجوز. غالباً ما تحاول المساعِدةُ تأمين اللبن من القرى، ويشرح الدليل الذي يقود قافلتها جغرافيا المناطق التي يعبرونها ليجهزوا أنفسهم لما ينتظرهم ويجهّزوا طعامهم.
جِمال مدينتها أغلى الجِمال في البلد، واعتبرت وسيلة التنقّل الرئيسة وسُمّيت «بواخر المحيط».
خلال لحظة ما، أحسّت جدتي بما أحسستُ به في المكان نفسه، أنها عاشت مشهد عبورها المنطقة بين الجبال من قبل. ابتسمتْ للقبٍ قررت أن تطلقه على نفسها في تلك اللحظة بالذات، لقب «امرأة الجبال».
منذ ثمانية قرون عاش في تلك المنطقة مَن اشتهروا بأنّهم «رجال الجبال»، وها هي جدّتي، «امرأة الجبال»، تنافسهم على اللقب.
تبتسم لأحلامها، وتصدّقها وتؤمن بها إيماناً أقوى من إيمانها بأحداث تابعتها وعاشتها خلال أيامها. تبتسم لصورة تتخيّلها لمَن أحبته ولم تلتق به. ولأنّها لم تره حوّلته إلى أسطورة.
خلال رحلة الهروب اشتاقت جدتي إلى منظر الكروم المشهورة في قريتها، إلى طعم العنب هناك.
مثلي تحبّ الطعام منذ كانت طفلة، وتحب روائح «الأكلات» المطبوخة. تتذكر مشاهد حفلات العشاء التي كان يقيمها والدها للرجال فقط طبعاً.
كانت تتمنى أن تخترق الحضور الرجالي، وتتربّع بين المدعوين. ثم تعلّمت أن مشاهد كثيرة تتخيّلها تبقى أحلاماً تطاردها. هكذا قررت جدتي أن تطارد هي أحلامها، وقررتُ أنا أن أطارد جرأتها...»

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077