تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

تفاصيل أخيرة

بعدما كانت تتوق إلى النوم، وترجوه أن يزورها، ثم تحاول أن تخضع له، أصبحت تغفو سريعاً، من دون أن تجهّز نفسها للغياب الموقت والجميل. تغفو من دون حروب نفسية، ومن دون استحضار الماضي ومشاهده، وصُوَر الذين رحلوا ولم تصحبهم في الرحلة الأخيرة. أصبحت تنام وتحلم أيضاً.
وكانت تسأل نفسها: منذ متى عدت لا أحلم؟ لا تذكر. ما يهمّها الآن أنها استأنفت أحلامها.
ردّت إليها أحلامَها قراءاتُ صديقتها الجديدة وأخبارها. تقرأ لها الصديقةُ بصوت مرتفع كلّ ما تعتبره آنياً ومثيراً للاهتمام.
تحاول أن تصف لها كيف أصبح العالم في الخارج. أخيراً ثمة مَن يزورها، وهي تعتبر زائرتها صديقتها وإن كانت تدفع لها مبلغاً معيّناً من المال كي تمضي معها بعض الوقت.
تفكّر بواقعية في أنّها في الرابعة والثمانين لا بد أن تشتري الأصدقاء.

منذ صحت تلمس العجوز الجميلة رأسها بأصابع حفر فيها الوقت خطوطاً وأشكالاً أخرى. ما زالت الحياة متشبّثة بشَعرها، تلمسه وتقرّر أنه طال. تحبّه قصيراً بالكاد نابتاً فوق جلدة رأسها.
تحبّه رمادياً قصيراً. كيف ما زال رمادياً؟ ولمَ لا تتعطّل الحياة حيث يجب أن تتعطّل في جسمها؟ لم تطلب أن تعيش بعد دفن زوجها أعواماً طويلة. ابنها لم تدفنه.
اختفى. تقول إنها لا تريد أن تجده ميتاً. «من حظّها» أنها لم تجده ميتاً. فليبقَ غائباً. غيابه أجمل من حتمية موته. تلمس رأسها بيد وتمسك الهاتف بيد أخرى، بأصابع اليد نفسها تحاول أن تدقّ على الأرقام لتتصل بمصفّفة شعرها نادية.
لو أن كلّ ما فيها ضعف وخفت إلا نظرها. نادت مساعدتها على العيش وحدها في شقة واسعة. طلبت الخادمة أرقام هاتف نادية.
ستقصّ العجوز شعرها اليوم. لن تهمل رغبةً أصابتها. منذ زمن لم تصبها رغبات.
كأنّ الحياة عادت إليها اليوم. تلمس أقراط أذنيها، وأحمر الشفاه. تعطّر الغرفة وتتعطّر. تختار قميص نوم غير الذي ترتديه كي تستقبل نادية فيه. تنوي أن تتأنّق اليوم للقاء صديقتها الجديدة.
ستقول لها إنها تحيا بالموت، وإنها تخشى أن تعيش عشرة أعوام بعد، أن تعمّر مثلما عمّرت أمها. تريد أن ترحل، وأن ترتّب كل تفاصيل رحيلها. تتخيّل موتها. ستكون على الأرجح وحدها في غرفتها.

جلست على حافة سريرها، وانحنت قليلاً نحو الطاولة الجانبية. تخربش على ورقة أمامها، تكتب من دون أن تركّز نظرها على الورقة، ومن دون أن تنظر إلى الحروف.
رغم نور الصباح الطبيعي، تستعين بضوء المصباح شبه الملتصق بالطاولة، تقرّب الورقة من نوره. وتكتب.
لا تساعدها عيناها على الكتابة. ستطلب من صديقتها الوحيدة أن تنسخ لها وصيّتها، ستمليها عليها خلال جلساتهما. لن تكون وصيّة بالمعنى القانوني، بل فلسفة الأيام الأخيرة.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077