تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

'الإنسان حيوان عاقل'

محت الصورُ الكلمات. يصعب الهروب من الصور. لمحة واحدة تستقرّ في الضمير.
لمحة واحدة تحوّل الإنسان إلى وحش عديم الإحساس. ينفع الإحساس وإن كان عجزاً، فالتعاطف مع المظلوم يمدّه بالقوة.

تلاحقها صور المجازر ولا تسعى بالضرورة إلى التدقيق في تفاصيلها. وثمة صور تتخيّلها لأن الكلمات ترسمها في كتب تاريخها الدموي.
الأحمر هو اللون الأقوى، هو اللون المسيطر على تاريخ البشر، هو لون القتل لأجل البقاء على الأرض ثم في ذاكرة البشرية وكُتُبها. فالقتَلة هم أبطال كتب التاريخ وأفلامه.

تقرأ الصور وتتخيّل الكلمات. قَتْل في الماضي الأبعد وقتْل في الماضي الأقرب. قتْل الآن وقتْل بعد حين. ما هذا التاريخ المرعب؟ فليخجل الإنسان من نفسه وليغيّر معنى «الإنسانية»، ذلك المعنى الذي ابتكره ويبدو الآن مضحكاً.
الإنسان حيوان واسع الخيال. "الإنسان حيوان ناطق" وكاذب. وقد تخيّل أنّه راقٍ. ثم كذب على نفسه ليقنعها بأنّه راقٍ. تضخّمت الكذبة في شكل خاص في النصف الثاني من القرن الماضي، وما زالت كذبة ضخمة. وستبقى كذلك.

حملتْ كتاب التاريخ إلى موعدها الأسبوعي مع الجبال حيث مشت بين بيوت مهجورة. طردت الحربُ سكّانَ هذه البيوت غير الأوائل، فهم بدورهم كانوا قد طردوا سكان المنطقة القدامى.
تاريخ مطرودين وطاردين ومطاردين، تاريخ قتلة وقتلى. رغم جمال الصمت الذي تخرقه أصوات دعسات قدميها، كان لا بد من أن يحلّ الكلام محلّ الخوف خلال لحظات غريبة تبدو الحياة فيها قاسية ومستسلمة في الوقت نفسه.
قاسية لأن الطبيعة الجميلة حولها وعرة ومخيفة، ومستسلمة لأن حزناً تاريخياً يسكن هدوء المكان ويذكّر بوحشته وهجرات أهله.
استأنست بالكلام الذي غالباً ما تهرب منه. قطعت صمتها، فاستغلّت رفيقة رحلتها الظرف لتستمتع بصوت كلمات تلفظها حيث تُسمع نادرةً وعريضة يتردّد صداها بين الأشجار الباسقة والجبال الصغيرة المحيطة بها.
وصفت لها صديقتها بدقّة مبدعة حزن صديقها المثقف الأوروبي «الراقي» على كلبه الذي خطفه الموت في أقلّ من لحظة.
«جعل قبر صديقه الكلب في حديقة منزله وأطّره بالورود». وهذا المثقف تحديداً لا تحرّكه مشاهد قبور ضحايا الظلم من البشر في أكثر من بلد قريب.
والأخطر أن ممثليه السياسيين من أبناء الحضارات العريقة والتحضّر الصافي يلوّحون بالأخضر للظالم ثم يستنكرون الجرائم المرتكبة ضد الأبرياء.  

الإنسان فعلاً حيوان كاذب. ماذا عن كلّ القبور التي تُحفر كل يوم في مشاهد يزيدها فجْعاً صمتُ العالم؟ ماذا عن قبور الذاكرة التي نُبشت وفيها جروح وجرائم وذكريات.
الإنسان حيوان «عاقل» لا يعرف أن يعيش إلا على جثث تتراكم في ضمير «الإنسانية» منذ وُجد على هذه الأرض.  

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077