مُخرج أمام الكاميرا
الفيلم بطيء وصامت. الفيلم جديد، صُوّر البارحة مع أفلام كثيرة غيره. أتَهُمّ فعلاً معرفة اسمَيْ المخرج والمصوّر؟ في هذا الفيلم تحديداً مخرجان.
مخرج أمام الكاميرا ومخرج وراءها.
الشخص النائم على سرير المستشفى مخرج أفلام، لكن مكانه في الفيلم هذا أمام الكاميرا.
وُضع أمام الكاميرا رغماً عنه. لمَ وضع هناك رغماً عنه؟ لا تهمّ مناقشة المواقف السياسية أو محاولة فهم معنى السياسة ومصالح الأمم وألعاب الدول و"المحاور" و"الأفرقاء" وتجار الأسلحة والشركات التي تعيد بناء البلدان المنكوبة بالحروب مقابل ثروات هذه البلدان المنكوبة دوماً. لا يهمّ كلّ هذا.
ولا يهمّ إذا كانت الإجابة عن سؤال مكان المخرج أمام الكاميرا تتطلّب غوصاً في كل هذه الأمور. تهمّ الحياة.
لكنها سُلبت من المخرج النائم على سرير المستشفى. هو في وضعية النائم أمام الكاميرا لأنه قُتل أمام الكاميرا أيضاً.
والمخيف أننا نحن «المشاهدين» يمكن أن نشاهد يومياً مئة فيلم أو مئة وخمسين فيلماً حقيقياً قصيراً يُقتل خلالها أبطالها من دون أن تتوقف حيواتنا. نشاهدها بصمت، بلا بكاء أو صراخ أو نواح.
موت المخرج أمام الكاميرا هو مجرّد موت آخر.
هل يؤثر في الواقع الموجع إن اهتمّ بعضنا بمعرفة اسم القتيل وأنه غادر العالم الأول حيث نضجت حياته ليعود إلى وطنه، ويشهد ميلاده الجديد؟ ليست المعاني واضحة تماماً.
وكلّما مرّ الوقت ونضجنا أصبحت المعاني أشد غموضاً: الوطن، الميلاد الجديد. ليس معنى الوطن واضحاً، وليس واضحاً الموت لنقل ما يجري حيث الظلم ينشر الظلام.
هل يجب أن يموت المخرج (ة) والمصوّر(ة) والطبيب(ة) والتلميذ(ة) لتُخترق العتمة؟ أتُخترق العتمة قبل الموت أم بعده؟ أبالموت تُخترق؟ في اللحظة الفاصلة.
"اللحظة". وكيف لا تتغيّر الحياة بعدها، "تلك اللحظة"؟ كيف تبقى الدنيا على حالها؟
في لحظة، في لقطة، وقع، سقط، تدحرج، انهار... وقعت، سقطت، تدحرجت، انهارت.
ويقول البعض إن الذين ماتوا في سبيل سقوط الطغيان سيقطف أثمان موتهم مَن لا يعترفون بهم.
كلّ هذا كلام لا معنى له. موتهم هو كل المعنى. كيف لا تتوقّف الدنيا بعد لحظة الوقوع؟ وقع المخرج ثم نام.
وفي بداية الحكاية، أراد أن يكتب، أراد أن يكتب الحكاية، لكنه قرر أن الصور أشدّ بلاغة من الكلمات.
اختار الصور. قال: "يجب أن يعرف العالم كلّه ما يجري." والعالم رأى وسمع وعرف ولم تتغيّر الحقائق القبيحة.
العالم كلّه يرى ويسمع ويعرف ولا تتغيّر الحقائق القبيحة.
ركض المخرج وراء الصورة التي ستوقظ العالم. مات المخرج لأجل الصورة التي ستوقظ العالم. يرى العالم الصورة وينام.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024