تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

جدار

فتحتُ الباب ومشيتُ. ركّزت نظري على قدميّ وأبدعت في المشي. لم أتوقف، كأنني أبحث عن الطريق إلى الخروج من نفسي. أهدرت نظرات كثيرة يمكن أن تؤنسني.
لو أنني فقط انتبهت إلى الناس. مشيت ولم أصل. الجدار قبالتي عريض والأصوات تمنعني من التقدّم في سيري.

"توقّفي. هنا يعيش الزعيم. من هنا لن تستطيعي المرور حتى لو تأكّدنا أنك لا تنوين الشرّ وأن الأقلام في حقيبة يدك لا تقتل، وأن أحمر الشفاه بريء والدفتر الأسود ليس سوى دفتر أسود، والهاتف لا تنطلق منه رصاصات قاتلة".

نسيت قدميّ. عدت لا أنظر إليهما. كان عليّ أن أنظر إلى الوجوه. نظرت إلى عيون رجال الأمن مباشرة. ضحكتُ واستاؤوا من ضحكاتي. طردوني من الطريق، طردوني من شارع في مدينة ولدت فيها وأستطيع أن أمشي في أزقّتها مغمضة العينين.
نفذت أوامر رجال الأمن ولم أكمل طريقي. لم أحاول الهروب منهم إلى فُتحة في الجدار. يجب أن يكون هناك فتحة في مكان ما، دوماً هناك فُتحة، هناك سبيل إلى الهروب، إلا هذا الجدار العنيد لم أستطع تجاوزه لأكمل رحلتي.

كان عليّ أن أعود إلى نقطة انطلاقي. في طريق العودة سئمتُ قدميّ اللتين لم تأخذاني بعيداً وعجزتا عن تجاوز الجدار. في طريق العودة بحثت في الوجوه عن الوجوه.


عاشقة المسرح

لم تنسَ المسرح وأصدقاء انتفاضة مايو 1968 في فرنسا. قالت لي إن باريس خدعتها وإنها بأخبار انتفاضة الحريات كانت تحارب خجلها. كيف تعرف الخجل امرأة امتلكت خشبة المسرح؟

وجهها "مسرحي". يليق بوجهها أن تكون صاحبته ممثلة مسرحية. الانسجام بين العظام فيه يخفف قسوة عينيها السوداوين. قالت إنها تحبّ التجاعيد في وجنتيها وحول فمها وإنها لا تخاف من النهاية.
"نجوتُ من الموت أكثر من مرة حتى عدت لا أخاف منه. نجوت أيضاً من الحياة حتى عدت لا أهتمّ بفقدها".

استأذنتها في أن أمسك جديلة شعرها الطويلة. تجرّأتُ على أن أسألها عن وحدتها وأسبابها، وعن سعادتها بوحدتها. فردّت عليّ بمونولوغ طويل: "حاربت خجلي القديم وسيطرة والديّ عليّ خلال طفولتي بالبحث عن ثورة.
قبل أن أجد المسرح قررت أنني رسامة، وعملت مساعدة رسام. ثم فشلت. فبحثت عن الكرسي الذي وقفتُ عليه لأتلو قصيدة حفظتها في المدرسة.
بحثت عن المرآة في غرفة طفولتي والتي انكسرت فجأة في ليلة عاصفة. بحثت عن نظرة أمي التي حاولت أن تعيد خجلي إليّ بعدما علّمتني محاربته.
طرت إلى باريس، تبعت كلمات أصدقاء وهميين، حلّقت فوق خشبة المسرح في بيروت قبل أن أسقط سقطة جميلة. أجمل السقطات سقطت. وما تلقّفني أحد.
لكنني ما لمتُ نفسي لأنني كنت وفيّة لما آمنت به. لمت الناس ثم الحرب في لبنان. لمتُ وجهي الذي تحبّه التجاعيد، وعقلي الحرّ بين عقول تعشق السلاسل. ثم صمتّ.
واكتفيت بين حين وآخر بزيارة صديق أو لقاء مَن بحث عني في أرشيف الأعمال المسرحية القليلة التي قدّمتها.

أذكر ما أحسست به من خوف على المنصّة، بانتظار أن أخرج من جسمي، أن أعيره إلى شخصية من التاريخ أو إلى امرأة مجنونة تشبهني. أذكر أنني أحببت المسرح ولأجله تخلّيت عن الواقع الذي طاردني وطردني من منصّتي إلى خارج الضوء".

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077