تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

نحو الضوء

تعدّ الكلمات مثلما تعدّ النقود: واحدة، اثنتان، ثلاث، أربع. كفى، يكفي. ما الذي يكفي؟ ثم لم تستطع التوقّف، الكلمات تتدفّق منها، الكلمات تخلّصها من الوجع، من الدخول مجدداً في أنفاق الموت. للموت أنفاق.
هؤلاء الذين ادعوا أنّهم غابوا عن الحياة لثوانٍ تحدّثوا عن أنفاق طويلة، أنفاق مضيئة أو معتمة عادوا منها إلى الحياة.
ثم تُقرّر أن الكلمات لا تخلّص ولا تشفي بل تسكّن ويصل تأثيرها إلى حد الهذيان.

توقّفت عن عدّ كلماتٍ قرأتها وأخرى خطّتها على أوراق صغيرة. توقّفت عن التحدّث مع المرآة، تتمرّن على ما يشبه خطبة ما كتبتها ولا حفظتها، بل حاولت ارتجالها في اللحظة نفسها، لحظة مواجهة المرآة. 

كانت الصبية في غرفتها في البيت الخالي معظم الوقت من سكّانه الآخرين. يغادر أهلها في الصيف إلى بيتهم الجبلي.
يتركون للصبية البيت ووحدتها التي تسعد بها. تخرج إلى الشرفة لتطلّ منها على محلّ الشاب الذي يشبهها.
لمحته منذ نحو عشرة أشهر يوم افتتح متجر الألبومات الموسيقية في آخر الشارع.
وحين التقى وجهُها وجهَه، أحسّت بأنّها تعرفه. ثم بدأت لعبة المراقبة والصمت حيث لا دور للكلمات. صمتت وانتظرت أن يفتتح هو الحوار بينهما. انتظرت طويلاً.

لحظة خرجت إلى الشرفة أيقظها الصراخ من انتظارها رؤيته. بين الأجسام المجتمعة على الرصيف، ميّزت امرأة في عباءة خضراء.
رأتها تنحني على الرصيف، الصراخ يشوّش المشهد، ويُفشل أي محاولة لفهمه. ما الذي يجري؟ نزلت من الطبقة الثانية إلى الرصيف حيث فهمت أن ثمة جسماً ممدّداً أرضاً ثم لمحت بقعة تشبه وردة حمراء.
اختلطت الألوان، أخضر عباءة المرأة المنحنية على الجسم،أبيض القميص القطني الملوّن بوردة حمراء أخرى، ببقعة حمراء منسدلة نحو بنطلون جينز تعرفه الصبية جيداً.
لم ترَ الوجه، عرفت الجسم ولم تنطق باسم الشاب الذي يشبهها. رفضت الاحتمال تماماً.
حدث كلّ هذا في ثوانٍ. وكانت تحاول الاقتراب للتأكد من أن الوجه ليس وجهه.
انحنت بدورها، لتمرّ بين الأجسام والأصوات وروائح الخوف. نام على الرصيف. تخيّلته نائماً على عشب أخضر، فوقه عباءة أمه الخضراء، وتحتها قميصه القطني الأبيض ملوّن بقلب أحمر قانٍ.
الوجه وجهه، والجسم الممدّد هنا جسمه. الأصوات أيضاً تردّد اسمه. هربت إلى فوق. يجب أن تحمي نفسها. لا، لم يعجبها، لا، لم تقرّر أن تحبه. لا، لم يبتسم لها، لا، لم يبادلها إشاراتها المربكة بإشارات أشدّ وضوحاً.
لا، لم تقل له إنها مثله تحبّ الموسيقى. لا لم يمشِ في مظاهرة. لا، لم يتمنَّ حياة كريمة. لا، لم يتمسّك بفرصة بناء وطن، بحلم بناء وطن.
ما معنى الوطن أصلاً؟ لم تكن الفكرة واضحة تماماً، كانت الفكرة مجرّد هذيان، كانت نفقاً مضيئاً. لا، لم يحلم بها وهي ما حلمت به.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077