مدن العتمة
الرصيف عريض، أعرض من شارع بيروتي جديد. على الرصيف شجرة عالية. فوق الشجرة تطلّ نافذة الطبقة الأولى من مبنى إسباني قديم تتعانق أزهاره البرونزية مؤطّرة شرفاته.
المبنى مؤلّف من خمس طبقات. وجدتْ نفسها على سطحه حيث تقدر على كشف أسرار الشارع وألوانه ونسج بعض حكاياته المفتوحة أمام ناظريها.
من فوق، من على سطح بناء إسباني قديم، رأتهم يتحرّكون. لا توحّد حركاتهم أنغامٌ موسيقية، لكنّها متأكّدة من أنّهم يتحرّكون بانسجام عجيب.
استمعت إلى موسيقى حركاتهم وراقبت تأثير النسمات الصيفية فيها. يتحرّكون ببطء، بعيداً عن هستيريا سباق الوقت، بعيداً عن جشع زملائهم في التحضّر.
من على سطح قصر إسباني قديم، راقبت تحرّكاتهم بين أشجار تنعش العيون والأجواء. يتوقفون ثم يستأنفون مشاريعهم اليومية.
تراقبهم لتتأكد من أن الحياة يمكن أن تكون مشروعاً ناجحاً رغم كل شيء. يمكن أن تكون مشاهد طبيعية وإن تخلّلها موت أقرباء وانفصال عن أحباء وأوجاع وصدمات.
علّقت نظراتها بهم، هؤلاء المارة الذين يبدون لها صغاراً ويعيشون حيوات طبيعية. كأنّهم يمشون على الهواء، يمشون إلى مواعيد وخطط وأحلام، وهي، من على سطح المبنى التاريخي، تفكّر في حيوات تُعاش في منطقتها.
الحياة حيث ولدت وحيث تعيش إذا لم تقصف بالقتل أو القهر، تشهد على أبشع جرائم القتل والإبادة وعلى التهميش والتعصّب والقمع والتدخّل في التفاصيل الشخصية الأشدّ تفاهة. وهي من على سطح حاضر يعانق التاريخ من دون أن يكون صورة منه، تتطهّر بدموعها.
تغمض عينيها لتتخيّل أنها إحدى هؤلاء السائرات بين هموم عادية، هموم جميلة.
من على سطح المبنى القديم، تبدو الحياة مفتوحة، لا حدود لسمائها، تبدو أيضاً ملوّنة بنور الشمس، دافئة من دون أذىً، ولا مفاجآت، متوقَّعة لأنها لا تغدر إلا قليلا.
ليس الغدر عادة من عاداتها، بل مصادفة تصيب غير المحظوظين.
من على سطح قصر إسباني قديم، أحسّت بالهواء خفيفاً لا يثقله تلوّث الضمائر السوداء. المارة تحت، السائرين على أرصفة واسعة، أصحاب رؤى وضمائر، قلوبهم على بلادهم، يفكّرون في غدها، في بيئتها وهوائها وشمسها ومبانيها، وفي غد أولادهم.
أين هؤلاء وأمثالهم في بلدها الصغير حيث أصحاب السلطة لا يرون إلا أنفسهم ولا يعترفون بجهلهم؟ هم جهلة وفخورون بجهلهم بل يحاربون ليحافظوا على أمكنتهم في العتمة، عتمة التخلّف.
من متحف ميرو إلى متحف بيكاسو وروائع أنطونيو غاودي المعمارية، حملتها الرحلة إلى سطح البناء التاريخي حيث قتلت حنينها إلى مدن العتمة وتمنّت أن تبقى هناك معلّقة على السطح.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024