ابنة التاريخ
لا تلتفت إلى الوراء ولا تهنئ نفسها على جرأتها. الحياة التي استطاعت اختيارها رغم كل شيء، حقٌّ تحارب به ولأجله. مَن بين نساء محيطها تستطيع فهمها؟
تستغرب أنها لا تتعب من حروبها ضد أهلها ومدينتها والرجال المستبدين المتحكّمين في النساء والظلم والأفكار التي لا تنجب الخير.
ليس سراً أنّها لم تستطع أن تراه بعد. قالت إنه ظهر في منامها. قالت إنّها رأته في المنام قبل أن تعرف أنّه يفكّر مثلها ويسعى مثلها إلى تغيير العالم. تابعت أخباره وكتاباته، وصدّقت أنها ترى ما يراه، وأنّه مخلّصها من ظلم الأفكار البالية التي تطرد محاولات التقدّم مع تقدّم الأيام.
ليس سراً تكشفه أنها لم تره بعد.
وقد تبعته وتركت عالمها لأجله. ولم تره. تسلّقت جبالاً وسكنت أودية وتنقّلت على هودجها من قرية إلى أخرى وهي تغني.
طُردت من أحياء عشقتها، ورُجمت وشُتمت وطاردتها رغبات نساء خائفات، فحملت تلك الرغبات إلى مناطق أخرى وأحياء أخرى وانتظرت بصبر أن تراه. لكنّها لم ترَه.
تجرأت على كتابة القصائد التي ألقتها بصوت يَرى وقلب يسمع، وغنّت قصائدها. لم تخجل من الغناء. وصلّت لتراه ولم تره.
رأت الموت في منافيها، رأته رابضاً عليها، باسماً بخبث. رأت الموت ولم تمت. ولم تره. ظنت أنها ستراه ولو مرة واحدة.
ومن دون أن تراه سلّمته عقلها وخططها وروحها. أرادت أن تصدّق أنّه من تنتظر، ثم أكد لها صوت داخلي أنه هو.
أي صوت داخلي يمكن أن تصدّقه امرأة عاقلة مثلها؟ لكنّها صدّقت الصوت.
لا تعرف كيف عرفت أنه المطلوب وأنّه المنتظر والمرتجى.
أكان يمكن أن تنتظر بعد مَن تشبه كلماتُه كلماتِها؟ ولمَن تكتب قصائدها إذا هي نبذته وتخلّت عنه؟ لو أنها ما ولدت امرأةً في القرن التاسع عشر. لو أنها ما ولدت قبل أوانها.
قالت ما قالته لليل. وقاومت ما كتبه الآخرون لها وفُرض عليها عيشه. لكنها لم تره. كيف تراه والمسافات تتسع بينهما؟ كلّما اقتربت ابتعد، وكلّما اقترب ابتعدت.
ليست هذه قصة حب ولا قصة إيمان، وليست قصة يأس من أحوال أهلها من البشر.
إنها محاولة، محاولة لاستثمار ذكاء فائض.
ثمة عقول وأرواح قادرة على الرؤية، وثمة عقول وأرواح عمياء. أما هي، فتُختصر قصتها بأنها ابنة التاريخ المنبوذة، وربما لأنها «ابنة» هذا التاريخ نُبذت.
هي ابنة التاريخ التي لم تبع رؤاها، ولم تتاجر بجنونها إذا كان ما رأته وآمنت به تجلّياً لجنونها. لنقل إنها صاحبة موقف. لنقل إنها دافعت عن موقفها حتى النهاية.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024