عطر شعرها
تجرّأت على هجر زوجها. رفضت أن تقيم في منزل عمّها، والد زوجها. وكان هذا الرفض تأكيداً على ثقتها بوجودها المنفصل عن وجود الرجل الذي تَقرَّر أنّه مركز حياتها وأن أحداث هذه الحياة تدور حوله، وأنّ أيامها مكرّسة لخدمته، وأنّ صوتها ذائب في صوته، وأنّ عليها أن تمحو كلماتها التي حوّلتها قصائد لأن كلماته غير مؤثّرة. ما كانت امرأة مثلها لتقبل بمصير يُفرض عليها.
كانت تعطّر شعرها رغم كل شيء. رغم أنها كانت مطارَدةً معظم الوقت، ثم وجدت نفسها سجينة. لكنّها كانت تعطّر شعرها وتجمع زجاجات العطر الشفّافة والأوشحة المطرّزة برسوم الأزهار الوردية. كانت رغبتها في الحياة توازي رغبتها في الموت.
ما عاد يكفيها أن تنتظر البطل المخلّص. قررت أن تبحث عنه. بحثت عنه في قصائدها. بحثت عنه في الكلمات والرؤى، ثم بحثت عنه في رحلات التيه أمام مطارديها بين المدن والقرى والجبال. تاقت إلى رؤية مَن اعتبرته مخلّصاً ولم تنجح في أن تلتقيه.
رغبتها في إنقاذ العالم من تفاهات التعصّب كرّست إيمانها بالبطل الموجود بين أبناء عصرها، البطل الحيّ، البطل الإنسان.
ما كان وارداً أن تبقى منتظرةً بطلاً ربما لن يأتي قبل انصرافها عن الدنيا. احتاجت إلى بطل. ألا نحتاج كلّنا إلى البحث عن بطل؟
لكنّها لم ترَ بطلها، البطل الذي اختارته. فصلتْها عنه حياة كاملة. فصلتْها عنه حياة قصيرة غنية مكثّفة مركّزة. وكانت الكلمات صديقتها، تكتب بها حياة لم ينهها موت.
هذه الحياة استمعت إليها عجوز في بيروت بعدما أصبحت حكاية تُروى. تستمع العجوز إلى قصّة الشاعرة الأمّ الثائرة وتعجز عن لمس جرحها هي. أثمة ما يجمع بينهما أم ترى الشاعرة موجودة في النساء المظلومات كلّهن؟ مظلومات لأنهن نساء الأرض التي ترفض الغد.
كيف يُلمَس جرح النفس؟ تسأل العجوز. أين يوضع الدواء المسكّن؟ وكيف لم يؤثّر الوقت؟ كيف لم يلتئم الجرح؟ ما أصعب أن تشعر بالنزيف ولا تعرف مصدره، تعرف سببه ولا تعرف من أين ينزف الوجع. يسيل الوجع.
لكنّها لا تراه ولا تلمسه، هو شعور لا تسيطر عليه حواسها. كان لها ولد خُطف خلال أعوام الحرب الأهلية اللبنانية الأولى، وكادت أن تموت مئات المرات وهي تنتظر عودته. وما زالت تنتظر. كم من انتظار يمكنها أن تتحمّل؟
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024