تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

هواية 'الأسئلة'

لا تعرف ما الذي يجعلها تبحث عن تلك المرأة في صوت امرأة أخرى. لا تستطيع في سنّها المتقدّمة أن تغرق في التاريخ المكتوب في أوراق وكتب ومساحات غير ملموسة.
تستطيع فقط أن تستمع إلى ما يقال ويُقرأ لها عن امرأة من التاريخ، امرأة ما عادت من لحم ودم، أصبحت ذكرى ناقصة لأنّهم أتلفوا أوراقها وأيّ أدلّة مادية على وجودها المندثر.

منحتها الشاعرة المقتولة انتظاراً آخر، انتظاراً يمكن أن تكون أكثر تحكّماً فيه. منذ تخفّفت من كل انشغالاتها، أصبحت صافية الذهن. لم تقتنع من قبل بجمال ساعات الصمت والوحدة.
فكرت قبل عشرين عاماً أن تعتزل الضجيج ولم تعرف كيف تخطو خطوتها الأولى نحو حماية نفسها من الآخرين.
أرادت أن تنقذ نفسها من هلوسات الحياة السريعة. تفكّر أحياناً في أن الكِبَر ليس مخيفاً بل أجمل ما فيه الوحدة واستعراض الماضي، استعراض ذهنيّ مستمرّ.
كلّ ما تراه في نهارها يذكّرها بأمور رأتها من قبل ومواقف عاشتها في زحمة الصبا وخلال أعوام زواجَيْها، زواجها الأول المشؤوم، وزواجها الثاني الذي أهدى إليها أجمل اللحظات.

تحار في تحديد موقفها من الشاعرة، تحبّها طبعاً، تتعاطف معها وتفهمها وتعترف بعبقريتها، لكنّها في الوقت نفسه لا تصدّق تماماً ما يُقرأ لها.
يمكن أن تكون بعض المعلومات، التي تنقلها إليها الصبية صديقتها الجديدة، غير منطقية وغير دقيقة. تبدو لها أحياناً جرأة الشاعرة غير حقيقية، جرأة مثالية، صافية، جرأة فارسة، جرأة شهيدة.

لا وقت لديها الآن لاقتحام التفاصيل. تستمع إلى ما يُقرأ لها وتحاول أن تسأل. ما عادت تسأل. قبل أعوام كانت الأسئلة هوايتها. الانتظار هوايتها الآن.
انتظار صامت طويل، انتظار على مستويات عدة: انتظار زيارة ابنها، انتظار زيارة الصبية رفيقتها الجديدة، انتظار أن ينتهي الليل، انتظار أن تنتهي حياتها. تشبّه نفسها بالشاعرة القتيلة، هي أيضاً أحاطت نفسها بمجموعة من النساء.
كانت في عزّ صباها تحرّكها غزارة أفكارها وقدرة غريبة على التحدّي. كانت ثائرة جاهزة في أيّ لحظة للدفاع عن فتاة أو امرأة مظلومة.
كانت تلميذاتها يستمعن إليها بشغف وينتظرن خططها، كما أحاطت بها نساء وعَيْن أهمية القتال من أجل انتزاع الاعتراف بامتلاء وجودهن.
الشاعرة أيضاً رافقتها مجموعة من النساء اللواتي انتظرن خطبها وقراراتها وعرفن، بسببها، أنهنّ يقدرن على مقاومة تجاهلهن. لم يكن الوقت قد حان بعد. الشاعرة سبقت الوقت ثم سبقها الماضي بسلاسله وجموده وجلاله. مَن يقدر على تحدّي الماضي؟
وهي امتدّ بها العمر، طالت أعوام عمرها، لكنها بقيت مكانها. مَن يقدر فعلاً على تحدّي الماضي؟

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077