انسحاب
احتارت العجوز في تفسير ما قرأته عن الشاعرة. احتارت في فهم وتقويم ما كُتب عنها ووصل إلى أذنَيْها. فهي تقرأ بعينَيْ الصبية. تقرأ لها الصبية بصوت واضح، وهي تستمع بشغف إلى ما نُقل من التاريخ إلى التاريخ.
ليس سهلاً أن تقف على الحياد مما تقرأه الصبية وتبحث هي عن استيعابه وفهمه، وعن تقدير ما إذا كان قابلاً للتصديق أم لا. وليس سهلاً ألا تتعاطف مع امرأة أمسكت مصيرها بيد من حديد، وثارت على ما تقرّر أنه مصيرها بعزيمة من حديد أيضاً وعقل صافٍ.
لا يمكن التأكّد من أنّ ما نُقل صحيح، وأن المشاهد الحقيقية تشبه المشاهد الموصوفةے بكلمات تنتمي إلى عاطفة ناقلها ومزاجه وأفكاره.
لن تحكم العجوز على الشاعرة التي تأخرت في اكتشافها، وحاولت أن تبحث عن قبرها مستعينة بعينَيّ الصبية وفضولها وصبرها. يكفيها أن الشاعرة منحتها انتظاراً من نوع آخر، انتظار معرفتها أكثر، وانتظار أن يتعمّق الاكتشاف الجديد والمتأخر هذا ويصبح قدراً.
حاولت أن تفكّر في دوافع الشاعرة للتمسّك بأفكارها أمام تهديد الأقوياء والقادرين، وبالرغم من مقتل مَن اعتبرته قائدها وملهمها. لم تتراجع عن مخالفة ما لا يمكن أن تقتنع به بالرغم من أنه مكرّس بسلطة الأعراف والقوانين.
أرسل إليها الحاكم رجلين لإقناعها بالعودة عن أفكارها ونبذ قصائدها، فلم تخفت حماستها خلال مناقشتهما بل حاولت خلال سبع جلسات أن تقنعهما بمنطقها وصواب آرائها.
كانت قادرة على استحضار الكلمات بسهولة عجيبة وعلى التلاعب بها، واستعمال منطقها لخدمة أفكارها.
احتاجت العجوز إلى الشاعرة وفكرة وجودها الماضي لتخرج من يأسها. احتاجت العجوز إلى الشاعرة ليربطها بالغد توق إلى معرفة ما. كانت قد زهدت بالمعارف كلّها، والحقائق والمتع. تُرتّب نفسها لأنّ النظافة والترتيب وجهان من وجوه زهدها.
أين كان هذا الهدوء الذي لا تغادره الآن؟ كيف لم تعرفه من قبل حين كان العَفَن حولها ولم يعذّبها؟ هدوء زهدها الآن يحارب العفن.
أصبحت تحسّ بالعفن، وتعرف أن غير العفِن لا يواجه العَفَن إلا بالانسحاب. وهي انسحبت إلى دنيا شاعرة أغفلها التاريخ، لكنّه لم يمحها.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024