حبر أخضر
تذكر فاطمة يوم عادت من الزيارة التي غيّرت أيامها. يسعدها أن تمضي ساعات بعيدة عن زوجها. كبرت وهي تحاول أن تتحمّل وجوده. وازداد تعلّقها بولديها حتى أصبح مرضياً، لكنّ والدهما سحبهما إلى عالمه. فانصرفت إلى الكتب.
منذ ولدت تعيش بين الكتب في منزل والدها الشيخ. ذلك اليوم رافقت خالها في زيارة إلى أقربائهما، وهناك غاصت في كتب اعتبرتها اكتشافاً، أهمّها كتاب شيخ آخر لم يرق لوالدها يوماً. أصبح كتاب الشيخ سرّها الجديد، وهي تعرف كيف تثري حياتها بالأسرار.
من الكتاب، سرّها الجديد، انطلقت إلى حياتها الجديدة، حياتها هي. حياة داخل حياة جُهّزت لها من قبل. وهي تعرف أن القراءة نافذتها وخلاصها.
عادت من الزيارة إلى كتاب الشيخ. ودوّنت ما انطلقت منه إلى مزيد من القراءة التي سمحت لها ببناء حياة موازية لحياتها العائلية المتعبة مع زوجها ابن عمها الذي لم تحبه يوماً، ومع والديها وإخوتها حيث الهواء أخفّ والحوار غير مستحيل بل ثري وذكي.
أغلقت النوافذ. أغلقت عينيها، ولم تتخلّ عن القشّة التي أصبحت ريشتها. وكتبت. أغلقت أذنيها، وحاولت أن تغلق عقلها كي لا تستوعب الحقائق اليومية والعبارات الصادمة والخوف الآتي. أغلقت عينيها لترى صور المخيّلة وتعيد الرؤى إلى الحياة.
ثم كتبت. كانت الأعشاب التي جمعتها لها زوجة سجّانها، مصدر الحبر الذي سمح لها بالكتابة وذكّرها بلون الأمل والحياة الجديدة.
كان حبرها أخضر، تلوّن به الخوف الذي يتعاظم في الخارج ولا يصل إلى سجنها. فهي بطلة. قررت أنها بطلة، واستمرّت في الهجوم وفي رجم السجون التي تُبنى مع ولادة بنات جنسها.
ينتظر كلّاً منهن سجنٌ يُجهَّز قبل ولادتها، ويكون عليها أن تخشاه أو أن تتعلّم العيش فيه بذكاء أو أن تدمّره. فكرت في كل هذا، ولم تكن تعرف ما يجري في بلدان أوروبية أو في الولايات المتحدة ويحرّكه وعي النساء حقوقهن الاجتماعية والسياسية.
كلّ ما قرأته أسّس لثورتها. ثارت أيضاً على معارفها. لقد قرأت الأساس وفهمته، قرأت التراث ووصايا أبطال الماضي، وفهمت كلّ ما قرأته ثم تجرّأت على انتقاد ما لم يفهمه الآخرون. ولم يكن الصمت سلاحها بل الكلام.
تسلّحت بقدرتها على الإصابة بالكلمات المنحوتة بصوتها. وقالت ما لم تقرأه امرأة من قبلها. طالبت بالإيمان بالغد والتخلّي عن التشبّث بالماضي. طالبت بالانطلاق نحو روح التجدّد.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024