تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

الحكمة في عينيها

عيناها الزرقاوان جميلتان رغم مرضهما، ولعلّ مرضهما زادهما جمالاً. عيناها حكيمتان، وأجمل ما في وجهها الحكمة في عينيها.
شعرها قصير كشعر رجل يهتمّ بمظهره، قصير وغير ملوّن، أبيض صاف كصفاء شوقها إلى الحياة خارج غرفتها. تتدلّى أقراط من أذنيها الطويلتين، وتظهر حولهما قروح كأنّها حروق سيجارة.
تسكن حول شفتيها الرقيقتين والحمراوين خطوط عميقة وحكايات لم تحكها بعد. هذه الخطوط تعلّقت بالشفتين ومحيطهما لتذكّرها بوعد لم تنفذه.
وجنتاها حمراوان بالرغم من ضعف جسمها، فهي نحيلة وطويلة القامة. أنفها شامخ، والجلد المترهّل حول أصابعها تنفر تحت طيّاته شرايين وقصص.

تستمع إلى ما يحدث في الخارج البعيد. ما عاد ممكناً أن تشاهد التلفزيون بسبب مرض عينيها. لكنها تجيد الاستماع إلى الأصوات المختلفة.
تستمع إلى أصوات نساء يطالبن بحقوقهن كمواطنات، تسمعهن يصرخن، فتسعد بصراخهن وإن كانت تتألّم بشدة كلّما سمعتهن يتألّمن ويدفعن الأثمان. لا يسكتن.
يسعدها أنهنّ لا يسكتن، تفرحها أصوات المظاهرات النسائية. هي حاولت خلال خمسة وأربعين عاماً أن تعلّم تلميذاتها في المدرسة الثانوية الدفاع عن حقوقهن بالرغم من أنّها لم تدافع عن حقوقها معظم الوقت.

نهضت، على مهل، من الكرسي محاولةً أن تمسك بالكتاب المحفوظ في خزانتها. لا يمكن أن تقرأ حروفه. تنتظر وصول الصبية التي تقرأ لها كي تتنفّس بسهولة، فالكلمات هواؤها.

منذ تسعة أعوام حاصرت نفسها بالانتظار. منذ تسعة أعوام فقدت زوجها وأصبحت تنتظر أن تلحق به، وتنتظر زيارات ابنها الوحيد.
لم تنجب غيره لأنّها تزوجت في سنّ متأخرة، وقد حاولت أن تعيش تجربة انتظار طفل ثانٍ، ثم أفلتت الأمل وتمسّكت بابنها.
ومنذ تسعة أعوام تنتظر زيارات ابنها المتفرّقة، وصوته البعيد عبر الهاتف، وتنتظر أن تتذكّر كلّ ما لم تحقّقه خلال حياتها الطويلة.

عاشت وهي تنتظر الصرخة الأولى، صرخة الاستنكار. ما كان ممكناً أن تصرخ هي، أن تعلن التغيير.
انتظرت أن تلحق بمَن ستركض أولاً أو أن تصرخ الصرخة الثالثة أو الثانية، لكنّها لم تجرؤ يوماً على أن تكون المبادرة إلى التغيير أو التعديل أو الاستياء.
لم تغيّر شيئاً في حياتها. هذا ما جعلها الآن تتعلّق بسيرة الشاعرة الشهيدة، وتنتظر. ها هي مرة أخرى رهينة الانتظار.
لا يمكن أن تدخل سيرة الشاعرة إلا عبر قراءات الصبية التي تزورها كلّ يوم. تحضن كتاب الشاعرة وهي تنتظر الصبية.
وتحضن رغبة الشاعرة في أن تُعزف الموسيقى خلال دفنها وأن يرقص مشيّعوها في الشمس.
أخيراً وجدت امرأة مثلها لا تعترف بكآبة الموت. تشتاق إليها وإن كانت امرأة على ورق، وتنتظر أن تلتقيها. تفكّر في أن هذا ما تبرع فيه امرأة في سنّها، الانتظار.  

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077