فنّ الشارع
لم أكن قد تعرّفت إلى كتاب فنان الغرافيتي البريطاني المشهور بانكسي الذي صدر عام 2005 قبل أن ألمحه منذ أسابيع في المكتبة. حملت الكتاب معي وتخيّلت أن الحائط ورقتي.
رأيت الجدران أوراقاً ولوحات تنتظر أن تتلوّن، تخيّلت أنّ الجدران كلّها في أيّ مدينة من مدن العالم أوراق تنتظر أن تصبح رسائل.
تخيّلي أن يكون العالم كتابك المفتوح، أن يكون الشارع موضوع الفنّ ومكانه الأول والأخير، أن تخربشي (أو تخربش) على العالم كلّه، وتحذفيه وترسمي فوقه عالماً آخر، عالماً أكثر عدلاً ولطافة وأقلّ قسوة وأشد ذكاءً، عالماً تكون الدماء فيه خفيفة لا رخيصة، والسخرية
فيه سلاحاً بدلاً من أن تكون استسلاماً للقهر والعنف و«الوضع القائم».
ليست تخريباً محاولة الحلم بالحياة مثلما يجب أن تكون. ليست بالضرورة تخريباً محاولة الإصلاح بالكلمات القارصة والرسوم، محاولة الحياة بواسطة الفنّ.
بانكسي البريطاني هو أحد أهمّ فناني الشارع في العالم. وما زالت هوية هذا «المقاوم» أو «المقاتل السرّي» مجهولةً بالرغم من شهرته. وقد عُرف برسائله السياسية المناهضة للحروب، والتي يظهر بعضها بوضوح في كتابه هذا الذي يحمل عنوان Wall and Piece.
صدر الكتاب عام 2005، وفي العام نفسه رسم بانكسي على جدار الفصل العنصري الذي بنته إسرائيل، تسع لوحات ساخرة لوّنت الجهة الفلسطينية من الجدار مصوّرة «الحياة في الجهة الأخرى».
وقد أطلق جنود في جيش الاحتلال الإسرائيلي عيارات نارية في الهواء، كما صوّبوا السلاح نحو بانكسي خلال إنجازه الرسوم على الجدار الذي وصفه بأنّه الوجهة السياحية الأولى لفناني الغرافيتي.
الحرب والجوع والموت، كلمات تظهر بين الكلمات القليلة التي يسرق بها بانكسي مساحات من الجدران والشوارع.
أبطال رسومه رموز من حياتنا اليومية، تمثّل شغفنا بالاستهلاك الذي تنتج عنه رغبة في التقليد، وابتعاد عن الابتكار والتفرّد.
مقابل الهوس بالحمية المنتشر في المجتمعات كلّها التي تهدر كميات هائلة من الطعام، تبرز على الجدران صور الأطفال ضحايا المجاعات.
«أشعر بالغثيان بسبب الوضع في العالم (المجاعة) حتى أنني لا أستطيع أن أنهي فطيرة التفاح الثانية». هذه إحدى الرسائل التي تظهر في الشوارع وفي الكتاب. هو الفن القديم الذي يزداد حداثة، خصوصاً في مدن «الثورات» العربية.
ما يُعتبر تخريباً هو عمل بطولي في المدن المهدّدة بالموت، وحيث التعبير عن الرأي السياسي مغامرة قاتلة. ما يُعتبر تخريباً يمكن أن يكون عملاً فنياً يجب الحرص على حمايته بدلاً من الانتقام منه.
الغرافيتي في مصر أرّخ لأيام الثورة وأحداثها، وحوّل الألوان شواهد على ما حدث وما يجب أن يحدث.
ثُبّتت الرسوم على الجدران كي تذكّر بالأثمان التي دُفعت وبالأهداف التي لم تتحقّق بعد ويجري الالتفاف حولها.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024