حلمٌ داخل حلمٍ
تحلم كلّ يوم بامرأة شعرها أسود كثيف وأملس، وحاجباها كثيفان أيضاً، عيناها لوزيتان وسوداوان وشفتاها تنطقان بالحقّ. تفتح هذه المرأة عينيها فجأة وتحدّق إلى العجوز النائمة.
خلال نومها، تحلم عزّة، أستاذة الأدب الفرنسي المتقاعدة منذ خمسة عشر عاماً، بأنّها نائمة وبأنّها تحلم بامرأة تحدّق إليها.
تُغرق الرغبة في الهروب عزّة في حلم داخل الحلم. اشتهرت تلك المرأة التي تظهر في مناماتها بجمالها وجرأة عينيها.
لم ترَ عزّة من قبل، خلال أعوامها الثمانين، وحتى في الحلم، امرأةً بتلك الجرأة، عيناها فضيحتان، تكشفان أسرار الناظر إليها.
ليس سهلاً أن تنام وتحلم امرأة في عمر عزّة. كان الطبيب قد خفّف جرعة المهدّئ الذي وصفه لها قبل النوم. لا تنام أكثر من أربع ساعات في الليلة الواحدة. تتمنّى أن ترى في الحلم أيضاً زوجها الميْت منذ أربعة أعوام. تودّ أن تسأله أسئلة كثيرة.
عاشت معه حياة كاملة ولم تسأله أسئلتها كلّها. لم تعرف تماماً إذا كان سعيداً في حياته معها، أحبّته وما زالت تحبّه.
تنتظر أن تلتقيه مجدداً. اعتادت أن تنتطر. التقدّم في السنّ يعني بالنسبة إليها الانتظار، انتظار أن يزورها ابنها، انتظار أن يمرّ الوقت، انتظار أن يصيبها النعاس، انتظار أن تنام، انتظار أن تموت.
رأت في الحلم طبيب زوجها أيضاً، وسمعته يقول عن المرأة الجريئة بطلة حلمها الأولى، ما قاله عن زوجها في أيامه الأخيرة، وهو أن المرأة الفضيحة «تحمّلت موتها البطيء بثبات خارق».
أعادت اكتشاف امرأة الحلم تلك في ما قرأته لها رندة، الصبية التي وظّفها ابنها قبل سفره الأخير لتقرأ لها الجرائد والروايات وكتب التاريخ.
ما زالت أوراق الصبية رندة على الكرسي في غرفة عزّة. لكنّها لا تستطيع أن تقرأها. تنتظر الموت منذ فقدت القدرة على استعمال عينيها.
إلا أنّ رندة أعادت إليها الرغبة في التعلّق بالحياة. تنتظر كلّ يوم موعد قدومها، تنتظر كتبها وأوراقها والعاصفة التي تتنقّل معها وتحلّ حيثما حلّت.
رغم أعوامها الثمانين، أهدت إليها الصبية رندة اكتشافاً أذهلها. عرّفتها أخيراً إلى امرأة عاصفة، امرأة ماتت منذ أكثر من مئة وستين عاماً، وكانت «تقرأ» كثيراً، قرأت التاريخ وأهمّ ما قرأته المستقبل، وما يصيب النساء في أزمنة الخنوع وأزمنة الثورات أيضاً.
ذلك اليوم، قرأت لها رندة الجريدة وقصائد فروغ فرخزاد. تحدّثتا عن فروغ وعن قصيدتها «الذي لا يشبه أحداً». كانتا سعيدتين، هادئتين قبل أن تقرّر رندة أن تكتشف ذلك الكتاب الأخضر في مكتبة ابن عزّة المسافر دوماً.
طلبت رندة أن تستعير كتاب ابن عزّة الغائب معظم أيام السنة. لم ترد عزة، هزّت كتفها فقط. ما الذي يهمّها في أن ينقص كتاب في مكتبة ابنها الغائب الذي لا يسأل عنها. مذ عثرتا على الكتاب ظهرت المرأة الجريئة في أحلام عزّة، وانشغلت رندة بمطاردة سِيَرها المنثورة هنا وهناك.
لم يكفها أن تعثر عليها في كتاب واحد. كان لا بدّ أن تستعدّ هي وصديقتها العجوز لاكتشاف المرأة «التي لا تشبه أحداً».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024