تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

حبال التغيير

هذه المرة فرغت من القصص والعبارات ومشاهد الذاكرة، وما ترسّب فيها. هذه المرة نظفتْ تماماً، وبدأت البحث عن بداية عذراء، بداية حقيقية، بداية أولى، طازجة، بداية لا بداية قبلها، بداية البدايات.
هذه المرة ستكون البداية مختلفة، وسيكون تأثيرُها في عقلها ومزاجها مختلفاً. قالت إنّها ستفتح للتاريخ الأبوابَ والنوافذ، وإنّها ستنتقل إلى التاريخ، إلى مرحلة معيّنة منه، إلى صورها المتخيّلة عن تلك الحقبة وإلى أحلامها بها.
وقالت إنها قرأت عن قصر حيث لا تعرف المؤامرات نوماً أو موتاً. قرأت مجدداً عن المؤامرات.
وقرأت ما كُتب لوصف القصر، فرأت نفسها وهي تدخله. ورأت الكلمات متأهّبة على الورقة الملفوفة، مكتوبة بالحبر الأسود، قاسية، حادة، الكلمة تتكئ على الأخرى بكلّ جدّيّة.
أحياناً يبدو لها بحر الكلمات المكتوبة، بحر الكلمات الأسود، غير مفهوم. كيف تقرأ البحر؟ كيف تقرأ طلاسم التاريخ وألغازه؟

ذهبت إلى التاريخ لأنّ الحاضر الواسع يضيق. وهي ما عادت قادرة على أن تخترع ما لا معنى له، وأن تكتب عن حرب سخيفة أو أن تشفق على أمل سخيف. تركت الحاضر بسبب خيبته وتعلّقت بالتاريخ.
فلا تريد أن تنفقَ الكلماتِ على أوهام. ثم تذكّر نفسها بأنها ليست أوهاماً تلك الحقائق الجديدة والقبيحة، للأسف ليست أوهاماً.
التغيير يُطمَس. التغيير يُداس ويُغرق ويُشوَّه. ثم يضحك التغيير نفسه على أصحاب الأمل. والتاريخ بدوره يضحك عليهم، ويسأل: ألا تتعلّمون؟

 لذا قررت أن تقاطع التاريخ أيضاً، ثم توقّفت عن التمسّك بالرؤى التاريخية محاولةً أن تجمّد مخيّلتها. تخلّت عن فكرة الاستعانة بقصص التاريخ لتلهو بها عن قصص الحاضر غير المجيد. وعامت في بحر فراغها.
لا تزن الكلمات الآن ولا تشفي فراغها ولا تعيد إليها المعاني. تطفو على الفراغ، ولا تتابع أخبار الموتى كي لا تتابع أخبار قَتَلَتهم.
لا تريد أن تعرف. لقد اعتزلت المعرفة. أحياناً تحاربها الكلمات دفاعاً عن معانيها وتقتحم عقلها. لكنها لا تريد أن تواظب على المعرفة.
وتحاول أن يتوقّف تفكيرها عند نقطة ما، نقطة تصبح مستنقعاً واسعاً من الفراغ. لن يكون الفراغ أوسخ من الحاضر وأخباره وصوره.

في حالة الفراغ تختلط الأفكار كلّها، تمتزج بالصور والخيبات في مشهد واحد عريض أبيض. هكذا اعتزلت قراءة الصحف ومتابعة القنوات الإخبارية، اعتزلت التلفزيون في شكل عام، ومعه الانفعال أمام صور مَن يقولون إنهم يمسكون بحبال التغيير ليشدّوها حول أحلامنا. ما أجمل الفراغ التام المطلق، الفراغ من التاريخ والحاضر والغد.
ما أجمل البرودة وقلّة الإحساس والذكاء والمعرفة. هذا ما تقوله خلال لحظات سريعة ثم تصحو على حروبها اليومية.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077